الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***
{يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ (40)} الصافن من الخيل: الذي يرفع إحدى يديه ويقف على طرف سنبكه، وقد يفعل ذلك برجله، وهي علامة الفراهة، وأنشد الزجاج: ألف الصفون فما يزال كأنه *** مما يقوم على الثلاث كسيرا وقال أبو عبيدة: الصافن: الذي يجمع يديه ويسويهما، وأما الذي يقف على طرف السنبك فهو المتخيم. وقال القتبي: الصافن: الواقف في الخيل وغيرها. وفي الحديث: «من سره أن يقوم الناس له صفوناً فليتبوأ مقعده من النار»، أي يديمون له القيام، حكاه قطرب. وأنشد النابغة: لناقبة مضروبة بفنائها *** عتاق المهارى والجياد الصوافن وقال الفراء: على هذا رأيت العرب وأشعارهم تدل على أنه القيام خاصة. جاد الفرس: صار رابضاً، يجود جودة بالضم، فهو جواد للذكر والأنثى من خيل جياد وأجواد وأجاويد. وقيل: الطوال الأعناق من الجيد، وهو العنق، إذ هي من صفات فراهتها. وقيل: الجياد جمع جود، كثوب وثياب. الرخاء: اللينة، مشتقة من الرخاوةيا داود إن جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب، وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار، أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار، كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب، ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب، إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد، فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب، ردوها عليّ فطفق مسحاً بالسوق والأعناق، ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب، قال رب إغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب، فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب، والشياطين كل بناء وغواص، وآخرين مقرنين في الأصفاد، هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب، وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب}. جعله تعالى داود خليفة في الأرض يدل على مكانته، عليه السلام، عنده واصطفائه، ويدفع في صدر من نسب إليه شيئاً مما لا يليق بمنصب النبوّة. واحتمل لفظ خليفة أن يكون معناه: تخلف من تقدمك من الأنبياء، أن يعلي قدرك بجعلك ملكاً نافذ الحكم، ومنه قيل: خلفاء الله في أرضه. واستدل من هذه الآية على احتياج الأرض إلى خليفة من الله، ولا يلزم ذلك من الآية، بل لزومه من جهة الشرع والإجماع. قال ابن عطية: ولا يقال خليفة الله إلا لرسول. وأما الخلفاء، فكل واحد منهم خليفة الذي قبله، وما يجيء في الشعر من تسمية أحدهم خليفة الله فذلك تجوز، كما قال قيس الرقيات: خليفة الله في بريته *** حقت بذاك الأقلام والكتب وقالت الصحابة لأبي بكر: خليفة رسول الله، وبذلك كان يدعى مدته. فلما ولي عمر قالوا: خليفة خليفة رسول الله، وطال الأمر وزاد أنه في المستقبل، فدعوه أمير المؤمنين، وقصر هذا الاسم على الخلفاء. انتهى. {فاحكم بين الناس بالحق}: أمر بالديمومة، وتنبيه لغيره ممن ولي أمور الناس. فمن حيث هو معصوم لا يحكم إلا بالحق، أمر أولاً بالحكم؛ ولما كان الهوى قد يعرض لغير المعصوم، أمر باجتنابه، وذكر نتيجة اتباعه، وهو إضلاله عن سبيل الله. و{فيضلك}: جواب للنهي، والفاعل في فيضلك ضمير {الهوى}، أو ضمير المصدر المفهوم من {ولا تتبع}، أي فيضلك اتباع الهوى. ولما ذكر ما ترتب على اتباع الهوى، وهو الإضلال عن سبيل الله، ذكر عقاب الضال. وقرأ الجمهور: {يضلون}، بفتح الياء، لأنهم لما أضلهم اتباع الهوى صاروا ضالين. وقرأ ابن عباس، والحسن: بخلاف عنهما؛ وأبو حيوة: بضم الياء، وهذه القراءة أعم، لأنه لا يضل الإضال في نفسه؛ وقراءة الجمهور أوضح. و{بما نسوا}: متعلق بما تعلق به لهم، ونسوا: تركوا، و{يوم}: يجوز أن يكون منصوب بنسوا، أو بما تعلق به لهم، ويكون النسيان عبارة عن ضلالهم عن سبيل الله. وانتصب {باطلاً} على أنه نعت لمصدر محذوف، أي خلق باطلاً، أو على الحال، أي مبطلين، أو ذوي باطل، أو على أنه مفعول من أجله. معنى باطلاً: عبثاً. {ذلك}: أي كون خلقها باطلاً، {ظن الذين كفروا}: أي مظنونهم، وهؤلاء، وإن كانوا مقرين بأن خالق السموات والأرض هو الله تعالى، فهم من حيث أنكروا المعاد والثواب والعقاب ظانون أن خلق ذلك ليس بحكمة، وأن خلق ذلك إنما هو عبث؛ ولذلك قال تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون} فنبه على المعاد والرجوع إلى جزائه، ثم ذكر ما بين المؤمن، عامل الصالحات، والمفسد من التباين، وأنهما ليسا سيين، وقابل الصلاح بالفساد، والتقوى بالفجور. قال ابن عباس: هي عامة في جميع المسلمين والكافرين. وقيل في قوم من مشركي قريش قالوا: نحن لنا في الآخرة أعظم مما لنا في الدنيا، فأنزل الله هذه الآية. وقيل في جماعة من المؤمنين والكافرين معينين بارزوا يوم بدر علياً وحمزة وعبيدة بن الحرث، رضي الله عنهم، وعتبة وشيبة والوليد بن عتبة؛ ووصف كلاً ناسبه. والاستفهام بأم في الموضعين استفهام إنكار، والمعنى: أنه لا يستوي عند الله من أصلح ومن أفسد، ولا من اتقى ومن فجر، وكيف تكون التسوية بين من أطاع ومن عصى؟ إذن كان يبطل الجزاء، والجزاء لا محالة واقع، والتسوية منتفية. ولما انتفت التسوية، بين ما تصلح به لمتبعه السعادة الأبدية، وهو كتاب الله تعالى، فقال: {كتاب أنزلناه}، وارتفاعه على إضمار متبدأ، أي هذا كتاب. وقرأ الجمهور: {مبارك}، على الصفة. وقرئ: مباركاً، على الحال اللازمة، أي هذا كتاب. وقرأ الجمهور: {ليدبروا آياته}، بياء الغيبة وشد الدال، وأصله ليتدبروا. وقرأ عليّ بهذا الأصل. وقرأ أبو جعفر: بتاء الخطاب وتخفيف الدال؛ وجاء كذلك عن عاصم والكسائي بخلاف عنهما، والأصل: لتتدبروا بتاءين، فحذفت إحداهما على الخلاف الذي فيها، أهي تاء المضارعة أم التاء التي تليها؟ واللام في ليدبروا لام كي، وأسند التدبر في الجميع، وهو التفكر في الآيات، والتأمل الذي يفضي بصاحبه إلى النظر في عواقب الأشياء. وأسند التذكر إلى أولي العقول، لأن ذا العقل فيه ما يهديه إلى الحق وهو عقله، فلا يحتاج إلا إلى ما يذكره فيتذكر، والمخصوص بالمدح محذوف، التقدير: {نعم العبد} هو، أي سليمان. وقرئ: نعم على الأصل، كما قال: نعم الساعون في القوم الشطر *** أثنى تعالى عليه لكثرة رجوعه إليه، أو لكثرة تسبيحه. {إذ عرض}، الناصب لإذ، قيل: {أواب}، وقيل: اذكر على الاختلاف في تأويل هذه الآية. قال الجمهور: عرضت عليه آلاف من الخيل تركها أبوه له، وقيل: ألف واحد، فأجريت بين يديه عشياً، فتشاغل بحسنها وجريها ومحبتها عن ذكر له، فقال: ردوها عليّ. فطفق يضرب أعناقها وعراقيبها بالسيف لما كانت سبب الذهول عن ذلك الذكر، فأبد له الله أسرع منها الريح. وقال قوم، منهم الثعلبي: كانت بالناس مجاعة، ولحوم الخيل لهم حلال، فعقرها لتؤكل على سبيل القربة، ونحر الهدى عندنا. انتهى. وفي هذه القصة ألفاظ فيها غض من منصب النبوّة كفينا عنه. والخير في قوله {حب الخير}: أي هذا القول يراد به الخيل. والعرب تسمي الخيل الخير، قاله قتادة والسدي: وقال الضحاك، وابن جبير: الخير هنا المال، وانتصب حب الخير، قيل: على المفعول به لتضمن أحببت معنى آثرت، قاله الفرّاء. وقيل: منصوب على المصدر التشبيهي، أي أحببت الخيل كحب الخير، أي حباً مثل حب الخير. وقيل: عدى بعن فضمن معنى فعل يتعدى بها، أي أنبت حب الخير عن ذكر ربي، أو جعلت حب الخير مغنياً عن ذكر ربي. وذكر أبو الفتح الهمداني في كتاب التبيان أن أحببت بمعنى: لزمت، من قوله: مثل بعير السوء إذ أحبا *** وقالت فرقة: {أحببت}: سقطت إلى الأرض، مأخوذ من أحب البعير إذا أعيى وسقط. قال بعضهم: حب البعير: برك، وفلان: طأطأ رأسه. وقال أبو زيد: بعير محب، وقد أحب إحباباً، إذا أصابه مرض أو كسر، فلا يبرح مكانه حتى يبرأ أو يموت. قال ثعلب: يقال للبعير الحسير محب، فالمعنى: قعدت عن ذكر ربي. وحب الخير على هذا مفعول من أجله، والظاهر أن الضمير في {توارت} عائد على {الصافنات}، أي دخلت اصطبلاتها، فهي الحجاب. وقيل: حتى توارت في المسابقة بما يحجبها عن النظر. وقيل: الضمير للشمس، وإن لم يجر لها ذكر لدلالة العشي عليها. وقالت طائفة: عرض على سليمان الخيل وهو في الصلاة، فأشار إليهم أني في صلاتي، فأزالوها عنه حتى دخلت في الاصطبلات؛ فقال هو لما فرغ من صلاته: {إني أحببت حب الخير}، أي الذي عند الله في الآخرة بسبب ذكر ربي، كأنه يقول: فشغلني ذلك عن رؤية الخيل حتى أدخلت اصطبلاتها، ردوها عليّ فطفق يمسح أعرافها وسوقها محبة لها. وقال ابن عباس والزهري: مسحه بالسوق والأعناق لم يكن بالسيف بل بيدية تكريماً لها ومحبة، ورجحه الطبري. وقيل: بل غسلاً بالماء. وقال الثعلبي: إن هذا المسح كان في السوق والأعناق بوسم حبس في سبيل الله. انتهى. وهذا القول هو الذي يناسب مناصب الأنبياء، لا القول المنسوب للجمهور، فإن في قصته ما لا يليق ذكره بالنسبة للأنبياء. و {حتى توارت}: غاية، فالفعل يكون قبلها متطاولاً حتى تصح الغاية، فأحببت: معناه أردت المحبة. وقال الزمخشري: فإن قلت: بم اتصل قوله: {ردوها عليّ}؟ قلت: بمحذوف تقديره: قال ردوها عليّ، فأضمروا ضمير ما هو جواب له، كأن قائلاً قال: فماذا قال سليمان؟ لأنه موضع مقتض للسؤال اقتضاء ظاهراً. ثم ذكر الزمخشري لفظاً فيه غض من النبوة فتركته. وما ذهب إليه من هذا الإضمار لا يحتاج إليه، إذ الجملة مندرجة تحت حكاية القول وهو: {فقال إني أحببت}. فهذه الجملة وجملة {ردوها علي} محكيتان بقال، وطفق من أفعال المقاربة للشروع في الفعل، وحذف غيرها لدلالة المصدر عليه، أي فطفق يمسح مسحاً. وقرأ الجمهور: {مسحاً}: وزيد بن علي: مساحاً، على وزن قتال، والباء {بالسوق} زائدة، كهي في قوله: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} وحكى سيبويه: مسحت برأسه ورأسه بمعنى واحد، وتقدم الكلام على ذلك في المائدة. وقرأ الجمهور: بالسوق، بغير همز على وزن فعل، وهو جمع ساق، على وزن فعل بفتح العين، كأسد وأسد؛ وابن كثير بالهمز، قال أبو علي: وهي ضعيفة، لكن وجهها في القياس أن الضمة لما كانت تلي الواو وقدر أنها عليها فهمزت، كما يفعلون بالواو المضمومة. ووجه همز السوق من السماع أن أبا حبة النميري كان يهمز كل واو ساكنة قبلها ضمة، وكان ينشد: حب المؤقدين إلى مؤسى *** انتهى. وليست ضعيفة، لأن الساق فيه الهمزة، ووزن فعل بسكون العين، فجاءت هذه القراءة على هذه اللغة. وقرأ ابن محيصن: بهمزة بعدها الواو، رواهما بكار عن قنبل. وقرأ زيد بن علي: بالساق مفرداً، اكتفى به عن الجمع لأمن اللبس. ومن غريب القول أن الضمير في ردوها عائد على الشمس، وقد اختلفوا في عدد هذه الخيل على أقوال متكاذبة، سودوا الورق بذكرها. {ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً}: نقل المفسرون في هذه الفتنة وإلقاء الجسد أقوالاً يجب براءة الأنبياء منها، يوقف عليها في كتبهم، وهي مما لا يحل نقلها، وأما هي من أوضاع اليهود والزنادقة، ولم يبين الله الفتنة ما هي، ولا الجسد الذي ألقاه على كرسي سليمان. وأقرب ما قيل فيه: أن المراد بالفتنة كونه لم يستثن في الحديث الذي قال: «لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة، كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، ولم يقل إن شاء الله، فطاف عليهن، فلم تحمل إلا امرأة واحدة، وجاءته بشق رجل». قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده، لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون " فالمراد بقوله: {ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً} هو هذا، والجسد الملقى هو المولود شق رجل. وقال قوم: مرض سليمان مرضاً كالإغماء حتى صار على كرسيه جسداً كأنه بلا روح. ولما أمر تعالى نبيه عليه السلام بالصبر على ما يقول كفار قريش وغيرهم، أمره بأن يذكر من ابتلي فصبر، فذكر قصة داود وقصة سليمان وقصة أيوب ليتأسى بهم، وذكر ما لهم عنده من الزلفى والمكانة، فلم يكن ليذكر من يتأسى به ممن نسب المفسرون إليه ما يعظم أن يتفوه به ويستحيل عقلاً وجود بعض ما ذكروه، كتمثل الشيطان بصورة نبي، حتى يلتبس أمره عند الناس، ويعتقدون أن ذلك المتصور هو النبي، ولو أمكن وجود هذا، لم يوثق بإرسال نبي، وإنما هذه مقالة مسترقة من زنادقة السوفسطائية، نسأل الله سلامة أذهاننا وعقولنا منها. {ثم أناب}: أي بعد امتحاننا إياه، أدام الإنابة والرجوع. {قال رب اغفر لي}: هذا أدب الأنبياء والصالحين من طلب المغفرة من الله هضماً للنفس وإظهاراً للذلة والخشوع وطلباً للترقي في المقامات، وفي الحديث: " إني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة "، والاستغفار مقدمة بين يدي ما يطلب المستغفر بطلب الأهم في دينه، فيترتب عليه أمر دنياه، كقول نوح في ما حكى الله عنه: {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً} الآية. والظاهر أن طلب الملك كان بعد هذه المحنة. وذكر المفسرون أنه أقام في ملكه عشرين سنة قبل هذا الابتلاء، وأقام بعدها عشرين سنة، فيمكن أنه كان في ملك قبل المحنة، ثم سأل بعدها ملكاً مقيداً بالوصف الذي بعده، وهو كونه لا ينبغي لأحد من بعده، واختلفوا في هذا القيد، فقال عطاء بن أبي رباح وقتادة: إلى مدة حياتي، لا أسلبه ويصير إلى غيري. وقال ابن عطية: إنما قصد بذلك قصداً جائزاً، لأن للإنسان أن يرغب من فضل الله فيما لا يناله أحد، لا سيما بحسب المكانة والنبوة. وانظر إلى قوله: {لا ينبغي}، إنما هي لفظة محتملة ليست تقطع في أنه لا يعطي الله نحو ذلك الملك لأحد. انتهى. وقال الزمخشري: كان سليمان عليه السلام ناشئاً في بيت الملك والنبوة ووارثاً لهما؛ فأراد أن يطلب من ربه معجزة، فطلب على حسب إلفه ملكاً زائداً على الممالك زيادة خارقة للعادة بالغة حد الإعجاز، ليكون ذلك دليلاً على نبوته، قاهراً للمبعوث إليهم، ولن يكون معجزة حتى تخرق العادات، فذلك معنى قوله: {لا ينبغي لأحد من بعدي}. وقيل: كان ملكاً عظيماً، فخاف أن يعطي مثله أحد، فلا يحافظ على حدود الله فيه، كما قالت الملائكة: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدّس لك} وقيل: ملكاً لا أسلبه، ولا يقوم فيه غيري مقامي. ويجوز أن يقال: علم الله فيما اختصه به من ذلك الملك العظيم مصالح في الدين، وعلم أنه لا يطلع بأحبابه غيره، وأوجبت الحكمة استيهابه، فأمره أن يستوهبه بأمر من الله على الصفة التي علم الله أن لا يضبطه عليها إلا هو وحده دون سائر عباده. أو أراد أن يقول: ملكاً عظيماً، فقال: {لا ينبغي لأحد من بعدي}، ولم يقصد بذلك إلا عظمة الملك وسعته، كما تقول لفلان: ما ليس لأحد من الفضل والمال، وربما كان للناس أمثال ذلك، ولكنك تريد تعظيم ما عنده. انتهى. ولما بالغ في صفة هذا الملك الذي طلبه، أتى في صفته تعالى باللفظ الدال على المبالغة فقال: {إنك إنت الوهاب}: أي الكثير الهبات، لا يتعاظم عنده هبة. ولما طلب الهبة التي اختص بطلبها، وهبه وأعطاه ما ذكر تعالى من قوله: {فسخرنا له الريح}. وقرأ الجمهور: بالإفراد؛ والحسن، وأبو رجاء، وقتادة، وأبو جعفر: الرياح بالجمع، وهو أعم لعظم ملك سليمان، وإن كان المفرد بمعنى الجمع لكونه اسم جنس. {تجري}: يحتمل أن تكون جملة حالية، أي جارية، وأن تكون تفسيرية لقوله: {فسخرنا له الريح}. {بأمره}؛ أي لا يمتنع عليه إذا أراد جريها. {رخاء}، قال ابن عباس والحسن والضحاك: مطيعة. وقال مجاهد: طيبة. {حيث أصاب}: أي حيث قصد وأراد، حكى الزجاج عن العرب. أصاب الصواب فأخطأ الجواب: أي قصد. وعن رؤية أن رجلين من أهل اللغة قصداه ليسألاه عن هذه الكلمة، فخرج إليهما فقال: أين تصيبان؟ فقال: هذه طلبتنا. ويقال: أصاب الله بك خيراً، وأنشد الثعلبي: أصاب الكلام فلم يستطع *** فأخطأ الجواب لدى المفصل وقال وهب: حيث أصاب، أي أراد. قيل: ويجوز أن يكون أصاب دخلت فيه همزة التعدية من صاب، أي حيث وجه جنوده وجعلهم يصوبون صوب السحاب والمطر. وقيل: أصاب: أراد، بلغة حمير. وقال قتادة: بلغة هجر. {والشياطين}: معطوف على الريح و{كل بناء وغواص}: بدل، وأتى ببنية المبالغة، كما قال: {يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل} الآية، وقال النابغة: إلا سليمان إذ قال الإله له *** قم في البرية فاحددها عن الفند وجيش الجنّ إني قد أذنت لهم *** يبنون تدمر بالصفاح والعمد والمعطوف على العام عام، فالتقدير: وكل غواص، أي في البحر يستخرجون له الحلية، وهو أول من استخرج الدر. {وآخرين}: عطف على كل، فهو داخل في البدل، إذ هو بدل كل من كل بدل التفصيل، أي من الجنّ، وهم المردة، سخرهم له حتى قرنهم في الأصفاد لكفرهم. وقال النابغة في ذلك: فمن أطاعك فانفعه بطاعته *** كما أطاعك وادلله على الرشد ومن عصاك فعاقبه معاقبة *** تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد تقدم تفسير {مقرّنين في الأصفاد} في آخر سورة إبراهيم عليه السلام، وأوصاف من ملك سليمان في سورة النمل. {هذا عطاؤنا}: إشارة لما أعطاه الله تعالى من الملك الضخم وتسخير الريح والإنس والجنّ والطير، وأمره بأن يمنّ على من يشاء ويمسك عن من يشاء. وقفه على قدر النعمة، ثم أباح له التصرف فيها بمشيئته، وهو تعالى قد علم أنه لا يتصرف إلا بطاعمة الله. قال الحسن وغيره، قاله قتادة: إشارة إلى ما فعله الجن، أي فامنن على من شئت منهم، وأطلقه من وثاقه، وسرحه من خدمته، وأمسك أمره كما تريد. وقال ابن عباس: إشارة إلى ما وهبه من النساء وأقدره عليهنّ من جماعهنّ، ولعله لا يصح عن ابن عباس، لأنه لم يجر هنا ذكر النساء، ولا ما أوتي من القدرة على ذلك، و{بغير حساب}: في موضع الحال من {عطاؤنا}، أي هذا عطاؤنا جماً كثيراً لا تكاد تقدر على حصره. ويجوز أن يكون {بغير حساب} من تمام {فامنن}. {أو أمسك}: أي لا حساب عليك في إعطاء من شئت أو حرمانه، وفي إطلاق من شئت من الشياطين أو إيثاقه. وختم الله تعالى قصته بما ذكر في قصة والده، وهو قوله: {وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب}. وقرأ الجمهور: {وحسن مآب}، بالنصب عطفاً على {زلفى}. وقرأ الحسن، وابن أبي عبلة: بالرفع، ويقفان على {زلفى}، ويبتدآن {وحسن مآب}، وهو مبتدأ، خبره محذوف تقديره: وحسب مآب له.
{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48)} الضغث: حزمة صغيرة من حشيش أو ريحان أو قضبان، وقيل: القبضة الكبيرة من القضبان، ومنه قولهم: ضغث على إبالة، والإبالة: الحزمة من الحطب، والضغث: القبضة عليها من الحطب أيضاً، ومنه قول الشاعر: وأسفل مني نهدة قد ربطتها *** وألقيت ضغثاً من خلى متطيب الحنث: فعل ماحلف على تركه، وترك ما حلف على فعله، الغساق: ما سال، يقال: غسقت العين والجرح. وعن أبي عبيدة: أنه البارد المنتن، بلغة الترك؛ وقال الأزهري: الغاسق: البارد، ولهذا قيل: ليل غاسق، لأنه أبرد من النهار. الاقتحام: ركوب الشدة والدخول فيها، والقحمة: الشدة. {واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب، ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولى الألباب، وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أوّاب، واذكر عبدنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار، إن أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار، وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار، واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل الأخيار،}. لما أمر نبيه بالصبر، وذكر ابتلاء داود وسليمان، وأثنى عليهما، ذكر من كان أشدّ ابتلاء منهما، وأنه كان في غاية الصبر، بحيث أثنى الله عليه بذلك. وأيوب: عطف بيان أو بدل. قال الزمخشري: وإذ بدل اشتمال منه. وقرأ الجمهور: {أني} بفتح الهمزة، وعيسى: بكسرها، وجاء بضمير التكلم حكاية لكلامه الذي ناداه بسببه، ولو لم يحك لقال: إنه مسه، لأنه غائب، وأسند المس إلى الشيطان. قال الزمخشري: لما كانت وسوسته إليه وطاعته له فيما وسوس سبباً فيما مسه الله به من النصب والعذاب، نسبه إليه وقد راعى الأدب في ذلك حيث لم ينسبه إلى الله في دعائه، مع أنه فاعله، ولا يقدر عليه إلا هو. وقيل: أراد ما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به البلاء، فالتجأ إلى الله في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء، أو بالتوفيق في دفعه ورده بالصبر الجميل. وذكر في سبب بلائه أن رجلاً استغاثه على ظالم، فلم يغثه. وقيل: كانت مواشيه في ناحية ملك كافر، فداهنه ولم يفده. وقيل: أعجب بكثرة ماله. انتهى. ولا يناسب مناصب الأنبياء ما ذكره الزمخشري من أن أيوب كانت منه طاعة للشيطان فيما وسوس به، وأن ذلك كان سبباً لما مسه الله به من النصب والعذاب، ولا أن رجلاً استغاثه على ظالم فلم يغثه، ولا أنه داهن كافراً، ولا أنه أعجب بكثرة ماله. وكذلك ما رووا أن الشيطان سلطه الله عليه حتى أذهب أهله وماله لا يمكن أن يصح، ولا قدرة له على البشر إلا بإلقاء الوساوس الفاسدة لغير المعصوم. والذي نقوله: أنه تعالى ابتلى أيوب عليه السلام في جسده وأهله وماله، على ما روي في الأخبار. وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن أيوب بقي في محنته ثماني عشرة سنة يتساقط لحمه حتى مله العالم، ولم يصبر عليه إلا امرأته، ولم يبين لنا توالي السبب المقتضي لعلته. وأما إسناده المس إلى الشيطان، فسبب ذلك أنه كان يعوده ثلاث من المؤمنين، فارتد أحدهم، فسأل عنه فقيل: ألقى إليه الشيطان أن الله لا يبتلي الأنبياء والصالحين، فحينئذ قال: {مسني الشيطان}، نزل لشفقته على المؤمنين. مس الشيطان ذلك المؤمن حتى ارتد منزلة مسه لنفسه، لأن المؤمن الخير يتألم برجوع المؤمن الخير إلى الكفر؛ ولذلك جاء بعده: {اركض برجلك}، حتى يغتسل ويذهب عنه البلاء، فلا يرتد أحد من المؤمنين بسبب طول بلائه، وتسويل الشيطان أنه تعالى لا يبتلي الأنبياء. وقيل: أشار بقوله: {مسني الشيطان} إلى تعريضه لامرأته، وطلبه أن تشرك بالله، وكأنه بتشكي هذا الأمر كان عليه أشدّ من مرضه. وقرأ الجمهور: {بنصب}، بضم النون وسكون الصاد، قيل: جمع نصب، كوثن ووثن؛ وأبو جعفر، وشيبة، وأبو عمارة عن حفص، والجعفي عن أبي بكر، وأبو معاذ عن نافع: بضمتين، وزيد بن علي، والحسن، والسدّي؛ وابن عبلة، ويعقوب، والجحدري: بفتحتين؛ وأبو حيوة، ويعقوب في رواية، وهبيرة عن حفص: بفتح النون وسكون الصاد. وقال الزمخشري: النصب والنصب، كالرشد والرشد، والنصب على أصل المصدر، والنصب تثقيل نصب، والمعنى واحد، وهو التعب والمشقة. والعذاب: الألم، يريد مرضه وما كان يقاسي فيه من أنواع الوصب. انتهى. وقال ابن عطية: وقد ذكر هذه القراءات، وذلك كل بمعنى واحد معناه المشقة، وكثيراً ما يستعمل النصب في مشقة الإعياء. وفرق بعض الناس بين هذه الألفاظ، والصواب أنها لغات بمعنى من قولهم: أنصبني الأمر، إذا شق عليّ انتهى. وقال السدّي: بنصب في الجسد وعذاب في المال، وفي الكلام حذف تقديره: فاستجبنا له وقلنا: {اركض برجلك}، فركض، فنبعت عين، فقلنا له: {هذا مغتسل بارد وشراب} فيه شقاؤك، فاغتسل فبرأ، {ووهبنا له}، ويدل على هذه المحذوفات معنى الكلام وسياقه. وتقدم الكلام في الركض في سورة الأنبياء. وعن قتادة والحسن ومقاتل: كان ذلك بأرض الجابية من الشأم. ومعنى {هذا مغتسل}: أي ما يغتسل به، {وشراب}، أي ما تشربه، فباغتسالك يبرأ ظاهرك، وبشربك يبرأ باطنك. والظاهر أن المشار إليه كان واحداً، والعين التي نبعت له عينان، شرب من إحداهما واغتسل من الأخرى. وقيل: ضرب برجله اليمنى، فنبعت عين حارة فاغتسل. وباليسرى، فنبعت باردة فشرب منها، وهذا مخالف لظاهر قوله: {مغتسل بارد}، فإنه يدل على أنه ماء واحد. وقيل: أمر بالركض بالرجل، ليتناثر عنه كل داء بجسده. وقال القتبي: المغتسل: الماء الذي يغتسل به. وقال مقاتل: هو الموضع الذي يغتسل فيه. وقال الحسن: ركض برجله، فنبعت عين ماء، فاغتسل منها، ثم مشى نحواً من أربعين ذراعاً، ثم ركض برجله، فنبعت عين، فشرب منها. قيل: والجمهور على أنه ركض ركضتين، فنبعت له عينان، شرب من إحداهما، واغتسل من الأخرى. والجمهور: على أنه تعالى أحيا له من مات من أهله، وعافى المرضى، وجمع عليه من شتت منهم. وقيل: رزقه أولاداً وذرية قدر ذريته الذين هلكوا، ولم يردّ أهله الذين هلكوا بأعيانهم، وظاهر هذه الهيئة أنها في الدنيا. وقيل ذلك وعد، وتكون تلك الهيئة في الآخرة. وقيل: وهبه من كان حياً منهم، وعافاه من الأسقام، وأرغد لهم العيش، فتناسلوا حتى تضاعف عددهم وصار مثلهم. و {رحمة}، {وذكرى}: مفعولان لهما، أي أن الهبة كانت لرحمتنا إياه، وليتذكر أرباب العقول، وما يحصل للصابرين من الخير، وما يؤول إليه من الأجر. وفي الكلام حذف تقديره: وكان حلف ليضربن امرأته مائة ضربة لسبب جرى منها، وكانت محسنة له، فجعلنا له خلاصاً من يمينه بقولنا: {وخذ بيدك ضغثاً}. قال ابن عباس: الضغث: عثكال النخل. وقال مجاهد: الأثل، وهو نبت له شوك. وقال الضحاك: حزمة من الحشيش مختلفة. وقال الأخفش: الشجر الرطب، واختلفوا في السبب الذي أوجب حلفه. ومحصول أقوالهم هو تمثل الشيطان لها في صورة ناصح أو مداو. وعرض لها شفاء أيوب على يديه على شرط لا يمكن وقوعه من مؤمن، فذكرت ذلك له، فعلم أن الذي عرض لها هو الشيطان، وغضب لعرضها ذلك عليه فحلف. وقيل غير ذلك من الأسباب، وهي متعارضة. فحلل الله يمينه بأهون شيء عليه وعليها، لحسن خدمتها إياه ورضاه عنها، وقد وقع مثل هذه الرخصة في الإسلام. أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمخدج قد خبث بأمة فقال: «خذوا عثكالاً فيه مائة شمراخ فاضربوه بها ضربة» وقال بذلك بعض أهل العلم في الإيمان، قال: ويجب أن يصيب المضروب كل واحد من المائة، إما أطرافها قائمة، وإما أعراضها مبسوطة، مع وجود صورة الضربة. والجمهور على ترك القول في الحدود، وأن البر في الإيمان لا يقع إلا بإتمام عدد الضربات. ووصف الله تعالى نبيه بالصبر. وقد قال: {مسني الضر} فدل على أن الشكوى إلى الله تعالى لا تنافي الوصف بالصبر. وقد قال يعقوب: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله على أن أيوب عليه السلام طلب الشفاء خيفة على قومه أن يوسوس إليهم الشيطان أنه لو كان نبياً لم يبتل، وتألفاً لقومه على الطاعة، وبلغ أمره في البلاء إلى أنه لم يبق منه إلا القلب واللسان. ويروى أنه قال في مناجاته: إلهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي، ولم يتبع قلبي بصري، ولم يمنعني ما ملكت يميني، ولم آكل إلا ومعي يتيم، ولم أبت شبعاناً ولا كاسياً ومعي جائع أو عريان، فكشف الله عنه. {واذكر عبدنا إبراهيم}، وقرأ ابن عباس وابن كثير وأهل مكة، عبدنا على الإفراد، وإبراهيم بدل منه، أو عطف بيان. والجمهور على الجمع، وما بعده من الثلاثة بدل أو عطف بيان. وقرأ الجمهور: {أولي الأيدي}، بالياء. قال ابن عباس ومجاهد: القوة في طاعة الله. وقيل: إحسانهم في الدين وتقدمهم عند الله على عمل صدق، فهي كالأيدي، وهو قريب مما قبله. وقيل: النعم التي أسداها الله إليهم من النبوة والمكانة. وقيل {الأيدي}: الجوارح المتصرفة في الخير، {الأبصار} الثاقبة فيه. قال الزمخشري: لما كانت أكثر الأعمال تباشر بالأيدي غلبت، فقيل في كل عمل: هذا مما عملت أيديهم، وإن كان عملاً لا يتأتى فيه المباشرة بالأيدي، أو كان العمال جذماً لا أيدي لهم، وعلى ذلك ورد قوله عز وعلا: {أولي الأيدي والأبصار}، يريد: أولي الأعمال والفكر؛ كأن الذين لا يعملون أعمال الآخرة، ولا يجاهدون في الله؛ ولا يفكرون أفكار ذوي الديانات، ولا يستبصرون في حكم الزمنى الذين لا يقدرون على إعمال جوارحهم، والمسلوبي العقول الذين لا استبصار بهم؛ وفيه تعريض بكل من لم يكن من عمال الله، ولا من المستبصرين في دين الله، وتوبيخ على تركهم المجاهدة والتأمل مع كونهم متمكنين منها. انتهى، وهو تكثير. وقال أبو عبد الله الرازي: اليد آلة لأكثر الأعمال، والبصر آلة لأقوى الإدراكات، فحسن التعبير عن العمل باليد، وعن الإدراك بالبصر. والنفس الناطقة لهو قوّتان: عاملة وعالمة، فأولي الأيدي والأبصار إشارة إلى هاتين الحالتين. وقرأ عبد الله، والحسن، وعيسى، والأعمش: الأيد بغير ياء، فقيل: يراد الأيدي حذف الياء اجتزاء بالكسرة عنها، ولما كانت أل تعاقب التنوين، حذفت الياء معها، كما حذفت مع التنوين، وهذا تخريج لا يسوغ، لأن حذف هذه الياء مع وجود أل ذكره سيبويه في الضرائر. وقيل: الأيدي: القوة في طاعة الله، والأبصار: عبارة عن البصائر التي يبصرون بها الحقائق وينظرون بنور الله تعالى. وقال الزمخشري: وتفسير الأيدي من التأييد قلق غير متمكن، وإنما كان قلقاً عنده لعطف الأبصار عليه، ولا ينبغي أن يعلق، لأنه فسر أولي الأيدي والأبصار بقوله: يريد أولي الأعمال والفكر. وقرئ: الأيادي، جمع الجمع، كأوطف وأواطف. وقرأ أبو جعفر، وشيبة، والأعرج، ونافع، وهشام: بخالصة، بغير تنوين، أضيفت إلى ذكرى. وقرأ باقي السبعة بالتنوين، و{ذكرى} بدل من {بخالصة}. وقرأ الأعمش، وطلحة: بخالصتهم، و{أخلصناهم}: جعلناهم لنا خالصين وخالصة، يحتمل، وهو الأظهر، أن يكون اسم فاعل به عن مزية أو رتبة أو خصلة خالصة لا شوب فيها، ويحتمل أن كون مصدراً، كالعاقبة، فيكون قد حذف منه الفاعل، أي أخلصناهم بأن أخلصوا ذكرى الدار، فيكون ذكرى مفعولاً، أو بأن أخلصنا لهم ذكرى الدار، أو يكون الفاعل ذكرى، أي بأن خلصت لهم ذكرى الدار، والدار في كل وجه من موضع نصب بذكرى، وذكرى مصدر، والدار دار الآخرة. قال قتادة: المعنى بأن خلص لهم التذكير بالدار الآخرة، ودعا الناس إليها وحضهم عليها. وقال مجاهد: خلص لهم ذكرهم الدار الآخرة، وخوفهم لها. والعمل بحسب ذلك. وقال ابن زيد: وهبنا لهم أفضل ما في الدار الآخرة، وأخلصناهم به، وأعطيناهم إياه. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يريد بالدار دار الدنيا، على معنى ذكر الثناء والتعظيم من الناس، والحمد الباقي الذي هو الخلد المجازي، فتجيء الآية في معنى قوله: {لسان صدق} وقوله: {وتركنا عليه في الآخرين} انتهى. وحكى الزمخشري هذا الاحتمال قولاً فقال: وقيل {ذكرى الدار}: الثناء الجميل في الدنيا ولسان الصدق. انتهى. والباء في بخالصة باء السبب، أي بسبب هذه الخصلة وبأنهم من أهلها، ويعضده قراءة بخالصهم {وإنهم عندنا لمن المصطفين}، أي المختارين من بين أبناء جنسهم، {الأخيار}: جمع خير، وخير كميت وميت وأموات. وتقدم الكلام في اليسع في سورة الأنعام، وذا الكفل في سورة الأنبياء. وعندنا ظرف معمول لمحذوف دل عليه المصطفين، أي وأنهم مصطفون عندنا، أو معمول للمصطفين، وإن كان بأل، لأنهم يتسمحون في الظرف والمجرور ما لا يتسمحون في غيرهما، أو على التبيين، أي أعني عندنا، ولا يجوز أن يكون عندنا في موضع الخبر، ويعني بالعندية: المكانة، ولمن المصطفين: في موضع خبر ثان لوجود اللام، لا يجوز أن زيداً قائم لمنطلق، {وكل}: أي وكلهم، من الأخيار.
{هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآَبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54) هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآَبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآَخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66)} لما أمره تعالى بالصبر على سفاهة قومه، وذكر جملة من الأنبياء وأحوالهم، ذكر ما يؤول إليه حال المؤمنين والكافرين من الجزاء، ومقر كل واحد من الفريقين. ولما كان ما يذكره نوعاً من أنواع التنزيل، قال: {هذا ذكر}، كأنه فصل بين ما قبله وما بعده. ألا ترى أنه لما ذكر أهل الجنة، وأعقبه بذكر أهل النار قال: {هذا وإن للطاغين}؟ وقال ابن عباس: هذا ذكر من مضى من الأنبياء. وقيل: {هذا ذكر}: أي شرف تذكرون به أبداً. وقرأ الجمهور: {جنات} بالنصب، وهو بدل، فإن كان عدن علماً، فبدل معرفة من نكرة؛ وإن كان نكرة، فبدل نكرة من نكر. وقال الزمخشري: {جنات عدن} معرفة لقوله: {جنات عدن التي وعد الرحمن} وانتصابها على أنها عطف بيان بحسن مآب، ومفتحة حال، والعامل فيها ما في المتقين من معنى الفعل. وفي مفتحة ضمير الجنات، والأبواب بدل من الضمير تقديره: مفتحة هي الأبواب لقولهم: ضرب زيد اليد والرجل، وهو من بدل الاشتمال. انتهى. ولا يتعين أن يكون جنات عدن معرفة بالدليل الذي استدل به وهو قوله: {جنات عدن التي}، لأنه اعتقد أن التي صفة لجنات عدن، ولا يتعين ما ذكره، إذ يجوز أن تكون التي بدلاً من جنات عدن. ألا ترى أن الذي والتي وجموعهما تستعمل استعمال الأسماء، فتلي العوامل، ولا يلزم أن تكون صفة؟ وأما انتصابها على أنها عطف بيان فلا يجوز، لأن النحويين في ذلك على مذهبين: أحدهما: أن ذلك لا يكون إلا في المعارف، فلا يكون عطف البيان إلا تابعاً لمعرفة، وهو مذهب البصريين. والثاني: أنه يجوز أن يكون في النكرات، فيكون عطف البيان تابعاً لنكرة، كما تكون المعرفة فيه تابعة لمعرفة، وهذا مذهب الكوفيين، وتبعهم الفارسي. وأما تخالفهما في التنكير والتعريف فلم يذهب إليه أحد سوى هذا المصنف. وقد أجاز ذلك في قوله: {مقام إبراهيم} فأعربه عطف بيان تابعاً لنكرة، وهو {آيات بينات} و{مقام إبراهيم} معرفة، وقد رددنا عليه ذلك في موضعه في آل عمران. وأما قوله: وفي مفتحة ضمير الجنات، فجمهور النحويين أعربوا الأبواب مفعولاً لم يسم فاعله. وجاء أبو علي فقال: إذا كان كذلك، لم يكن في ذلك ضمير يعود على جنات عدن. من الحالية أن أعرب مفتحة حالاً، أو من النعت أن أعرب نعتاً لجنات عدن، فقال: في مفتحة ضمير يعود على الجنات حتى ترتبط الحال بصاحبها، أو النعت بمنعوته، والأبواب بدل. وقال: من أعرب الأبواب مفعولاً، لم يسم فاعله العائد على الجنات محذوف تقديره: الأبواب منها. وألزم أبو علي البدل في مثل هذا لا بد فيه من الضمير، إما ملفوظاً به، أو مقدراً. وإذا كان الكلام محتاجاً إلى تقديره واحد، كان أولى مما يحتاج إلى تقديرين. وأما الكوفيون، فالرابط عندهم هو أل لمقامه مقام الضمير، فكأنه قال: مفتحة لهم أبوابها. وأما قوله: وهو من بدل الاشتمال، فإن عنى بقوله: وهو قوله اليد والرجل، فهو وهم، وإنما هو بدل بعض من كل. وإن عنى الأبواب، فقد يصح، لأن أبواب الجنات ليست بعضاً من الجنات. وأما تشبيهه ما قدره من قوله: مفتحة هي الأبواب، بقولهم: ضرب زيد اليد والرجل، فوجهه أن الأبواب بدل من ذلك الضمير المستكن، كما أن اليد والرجل بدل من الظاهر الذي هو زيد. وقال أبو إسحاق: وتبعه ابن عطية: مفتحة نعت لجنات عدن. وقال الحوفي: مفتحة حال، والعامل فيها محذوف يدل عليه المعنى، تقديره: يدخلونها. وقرأ زيد بن علي، وعبد الله بن رفيع، وأبو حيوة: جنات عدن مفتحة، برفع التاءين: مبتدأ وخبر، أوكل منهما خبر مبتدأ محذوف، أي هو جنات عدن هي مفتحة. والاتكاء: من هيئات أهل السعادة يدعون فيها، يدل على أن عندهم من يستخدمونه فيما يستدعون، كقوله: {ويطوف عليهم ولدان مخلدون} ولما كانت الفاكهة يتنوع وصفها بالكثرة، وكثرتها باختلاف أنواعها، وكثرة كل نوع منها؛ ولما كان الشراب نوعاً واحداً وهو الخمر، أفرد: {وعندهم قاصرات الطرف}. قال قتادة: معناه على أزواجهن، {أتراب}: أي أمثال على سنّ واحدة، وأصله في بني آدم لكونهم مس أجسادهم التراب في وقت واحد، والأقران أثبت في التحاب. والظاهر أن هذا الوصف هو بينهن، وقيل: بين أزواجهن، أسنانهن كأسنانهم. وقال ابن عباس: يريد الآدميات. وقال صاحب الغنيان: حور. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: وهذا ما يوعدون، بياء الغيبة، إذ قبله وعندهم؛ وباقي السبعة: بتاء الخطاب على الالتفات، والمعنى: هذا ما وقع به الوعد ليوم الجزاء. {إن هذا}: أي ما ذكر للمتقين مما تقدم، {لرزقنا} دائماً: أي لا نفاد له. {هذا وإن للطاغين لشر مآب}، قال الزجاج: أي الأمر هذا، وقال أبو علي: هذا للمؤمنين، وقال أبو البقاء: مبتدأ محذوف الخبر، أو خبر محذوف المبتدأ، والطاغون هنا: الكفار؛ وقال الجبائي: أصحاب الكبائر كفاراً كانوا أو لم يكونوا. وقال ابن عباس، المعنى: الذين طغوا عليّ وكذبوا رسلي لهم شر مآب: أي مرجع ومصير. {فبئس المهاد}: أي هي {هذا} في موضع رفع مبتدأ خبره {جهنم}، {وغساق}، أو خبر مبتدأ محذوف، أي العذاب هذا، وحميم خبر مبتدأ، أو في موضع نصب على الاشتغال، أي ليذوقوا. {هذا فليذوقوه حميم}: خبر مبتدا، أي هو حميم، أو مبتدأ محذوف الخبر، أي منه حميم ومنه غساق، كما قال الشاعر: حتى إذا ما أضاء الصبح في غلس *** وغودر البقل ملوى ومحصود أي: منه ملوى ومنه محصود، وهذه الأعاريب مقولة منقولة. وقيل: هذا مبتدأ، وفليذوقوه الخبر، وهذا على مذهب الأخفش في إجازته: زيد فاضربه، مستدلاً بقول الشاعر: وقائلة خولان فانكح فتاتهم *** والغساق، عن ابن عباس: الزمهرير؛ وعنه أيضاً، وعن عطاء، وقتادة، وابن زيد: ما يجري من صديد أهل النار؛ وعن كعب: عين في جهنم تسيل إليها حمة كل ذي حمة من حية أو عقرب أو غيرهما، يغمس فيها فيتساقط الجلد واللحم عن العظم؛ وعن السدي: ما يسيل من دموعهم؛ وعن ابن عمر: القيح يسيل منهم فيسقونه. وقرأ ابن أبي إسحاق، وقتادة، وابن وثاب، وطلحة، وحمزة، والكسائي، وحفص، والفضل، وابن سعدان، وهارون عن أبي عمرو: بتشديد السين. فإن كان صفة، فيكون مما حذف موصوفها، وإن كان اسماً، ففعال قليل في الأسماء، جاء منه: الكلاء، والجبان، والفناد، والعقار، والخطار. وقرأ باقي السبعة: بتخفيف السين. وقرأ الجمهور: {وآخر} على الإفراد، فقيل: مبتدأ خبره محذوف تقديره: ولهم عذاب آخر. وقيل: خبره في الجملة، لأن قوله: {أزواج} مبتدأ، و{من شلكه} خبره، والجملة خبر. وآخر، وقيل: خبره أزواج، ومن شكله في موضع الصفة، وجاز أن يخبر بالجمع عن الواحد من حيث هو درجات، ورتب من العذاب، أو سمى كل جزء من ذلك الآخر باسم الكل. وقال الزمخشري: وآخر، أي وعذاب آخر، أو مذوق آخر؛ وأزواج صفة آخر، لأنه يجوز أن يكون ضروباً أو صفة للثلاثة، وهي: حميم وغساق وآخر من شكله. انتهى. وهو إعراب أخذه من الفراء. وقرأ الحسن، ومجاهد، والجحدري، وابن جبير، وعيسى، وأبو عمرو: وأخر على الجمع، وهو مبتدأ، ومن شكله في موضع الصفة؛ وأزواج خبره، أي ومذوقاً آخر من شكل هذا المذوق من مثله في الشدة والفظاعة؛ {أزواج}: أجناس. وقرأ مجاهد: من شكله، بكسر الشين؛ والجمهور: بفتحها، وهما لغتان بمعنى المثل والضرب. وأما إذا كان بمعنى الفتح، فبكسر الشين لا غير. وعن ابن مسعود: {وآخر من شلكه}: هو الزمهرير. والظاهر أن قوله: {هذا فوج مقتحم معكم}، من قول رؤسائهم بعضهم لبعض، والفوج:: الجمع الكثير، {مقتحم معكم}: أي النار، وهم الأتباع، ثم دعوا عليهم بقولهم: {مرحباً بهم}، لأن الرئيس إذا رأى الخسيس قد قرن معه في العذاب، ساءه ذلك حيث وقع التساوي في العذاب، ولم يكن هو السالم من العذاب وأتباعه في العذاب. ومر حباً معناه: ائت رحباً وسعة لا ضيقاً، وهو منصوب بفعل يجب إضماره، ولأن علوهم بيان للمدعو عليهم. وقيل: {هذا فوج}، من كلام الملائكة خزنة النار؛ وأن الدعاء على الفوج والتعليل بقوله: {إنهم صالوا النار}، من كلامهم. وقيل: {هذا فوج مقتحم معكم}، من كلام الملائكة، والدعاء على الفوج والإخبار بأنهم صالوا النار من كلام الرؤساء المتبوعين. {قالوا} أي الفوج: {لا مرحباً بكم}، رد على الرؤساء ما دعوا به عليهم. ثم ذكروا أن ما وقعوا فيه من العذاب وصلى النار، إنما هو بما ألقيتم إلينا وزينتموه من الكفر، فكأنكم قدمتم لنا العذاب أو الصلى. وإذا كان {لا مرحباً بهم} من كلام الخزنة، فلم يجيء التركيب: قالوا: بل هؤلاء لا مرحباً بهم، بل جاء بخطاب الأتباع للرؤساء، لتكون المواجهة لمن كانوا لا يقدرون على مواجهتهم في الدنيا بقبيح أشفى لصدورهم، حيث تسببوا في كفرهم، وأنكى للرؤساء. {فبئس القرار}: أي النار؛ وهذه المرادة والدعاء كقوله: {كلما دخلت أمة لعنت أختها} ولم يكتف الأتباع برد الدعاء على رؤسائهم، ولا بمواجهتهم بقوله: {أنتم قدمتموه لنا}، حتى سألوا من الله أن يزيد رؤساءهم ضعفاً من النار، والمعنى: من حملنا على عمل السوء حتى صار جزاءنا النار، {فزده عذاباً ضعفاً}، كما جاء في قول الأتباع: {ربنا آتهم}، أي بساداتهم، {ضعفين من العذاب} {ربنا هؤلاء أضلوا فأتهم عذاباً ضعفاً من النار} ولما كان الرؤساء ضلالاً في أنفسهم وأضلوا اتباعهم، ناسب أن يدعو عليهم بأن يزيدهم ضعفاً، كما جاء: فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، فعلى هذا الضمير في قوله: {قالوا} للاتباع، ومن قدم: هم الرؤساء. وقال ابن السائب: {قالوا ربنا} إلى آخره، قول جميع أهل النار. وقال الضحاك: {من قدم}، هو إبليس وقابيل. وقال ابن مسعود: الضعف حيات وعقارب. {وقالوا}: أي أشراف الكفار، {ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار}: أي الأرذال الذين لا خير فيهم، وليسوا على ديننا، كما قال: {وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا} وروي أن القائلين من كفار عصر الرسول، صلى الله عليه وسلم، هم: أبو جهل، وأمية بن خلف، وأصحاب القليب، والذين لم يروهم: عمار، وصهيب، وسلمان، ومن جرى مجراهم، قاله مجاهد وغيره. قيل: يسألون أين عمار؟ أين صهيب؟ أين فلان؟ يعدون ضعفاء المسلمين فيقال لهم: أولئك في الفردوس. وقرأ النحويان، وحمزة: اتخذناهم وصلاً، فقال أبو حاتم، والزمخشري، وابن عطية: صفة لرجال. قال الزمخشري: مثل قوله: {كنا نعدم من الأشرار}. وقال ابن الأنباري: حال، أي وقد اتخذناهم. وقرأ أبو جعفر، والأعرج، والحسن، وقتادة، وباقي السبعة: بهمزة الاستفهام، لتقرير أنفسهم على هذا، على جهة التوبيخ لها. والأسف، أي اتخذناهم سخرياً، ولم يكونوا كذلك. وقرأ عبد الله، وأصحابه، ومجاهد، والضحاك، وأبو جعفر، وشيبة، والأعرج، ونافع، وحمزة، والكسائي: سخرياً، بضم السين، ومعناها: من السخرة والاستخدام. وقرأ الحسن، وأبو رجاء، وعيسى، وابن محيصن، وباقي السبعة: بكسر السين، ومعناها: المشهور من السخر، وهو الهزء. قال الشاعر: إني أتاني لسان لا أسر بها *** من علو لا كذب فيها ولا سخر وقيل: بكسر السين من التسخير. وأم إن كان اتخذناهم استفهاماً إما مصرحاً بهمزته كقراءة من قرأ كذلك، أو مؤولاً بالاستفهام، وحذفت الهمزة للدلالة. فالظاهر أنها متصلة لتقدم الهمزة، والمعنى: أي الفعلين فعلنا بهم، الاستسخار منهم أم ازدراؤهم وتحقيرهم؟ وإن أبصارنا كانت تعلوا عنهم وتقتحم. ويكون استفهاماً على معنى الإنكار على أنفسهم، للاستسخار والزيغ جميعاً. وقال الحسن: كل ذلك قد فعلوا، اتخذوهم سخرياً، وزاغت عنهم أبصارهم محقرة لهم. وأن اتخذناهم ليس استفهاماً، فأم منقطعة، ويجوز أن تكون منقطعة أيضاً مع تقدم الاستفهام، يكون كقولك: أزيد عندك أم عندك عمرو؟ واستفهمت عن زيد، ثم أضربت عن ذلك واستفهمت عن عمرو، فالتقدير: بل أزاغت عنهم الأبصار. ويجوز أن يكون قولهم: {أم زاغت عنهم الأبصار} له تعلق بقوله: {ما لنا لا نرى رجالاً}، لأن الاستفهام أولاً دل على انتفاء رؤيتهم إياهم، وذلك دليل على أنهم ليسوا معه، ثم جوزوا أن يكونوا معه، ولكن أبصارهم لم ترهم. {إن ذلك}: أي التفاوض الذين حكيناه عنهم، {لحق}: أي ثابت واقع لا بد أن يجري بينهم. وقرأ الجمهور: {تخاصم} بالرفع مضافاً إلى {أهل}. قال ابن عطية: بدل من {لحق}. وقال الزمخشري: بين ما هو فقال: تخاصم منوناً، أهل رفعاً بالمصدر المنون، ولا يجيز ذلك الفراء، ويجيزه سيبويه والبصريون. وقرأ ابن أبي عبلة: تخاصم، أهل، بنصب الميم وجر أهل. قال الزمخشري: على أنه صفة لذلك، لأن أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجناس. وفي كتاب اللوامح: ولو نصب تخاصم أهل النار، لجاز على البدل من ذلك. وقرأ ابن السميفع: تخاصم: فعلاً ماضياً، أهل: فاعلاً، وسمى تعالى تلك المفاوضة التي جرت بين رؤساء الكفار وأتباعهم تخاصماً، لأنّ قولهم: {لا مرحباً بهم}، وقول الأتباع: {بل أنتم لا مرحباً بكم}، هو من باب الخصومة، فسمى التفاوض كله تخاصماً لاستعماله عليه. {قل}: يا محمد، {إنما أنا منذر}: أي {منذر المشركين بالعذاب}، وأن الله لا إله إلا الله، لا ند له ولا شريك، وهو الواحد القهار لكل شيء، وأنه مالك العالم، علوه وسفله، العزيز الذي لا يغالب، الغفار لذنوب من آمن به واتبع لدينه.
{قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)} الضمير في قوله: {قل هو نبأ} يعود على ما أخبر به صلى الله عليه وسلم من كونه رسولاً منذراً داعياً إلى الله، وأنه تعالى هو المنفرد بالألوهية، المتصف بتلك الأوصاف من الوحدانية والقهر وملك العالم وعزته وغفرانه، وهو خبر عظيم لا يعرض عن مثله إلا غافل شديد الغفلة. وقال ابن عباس: النبأ العظيم: القرآن. وقال الحسن: يوم القيامة. وقيل: قصص آدم والإنباء به من غير سماع من أحد. وقال صاحب التحرير: سياق الآية وظاهرها أنه يريد بقوله: {قل هو نبأ عظيم}، ما قصه الله تعالى من مناظرة أهل النار ومقاولة الأتباع مع السادات، لأنه من أحوال البعث، وقريش كانت تنكر البعث والحساب والعقاب، وهم عن ذلك معرضون. وقوله: {ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون}: احتجاج على قريش بأن ما جاء به من عند الله لا من قبل نفسه. فإن من في الأرض ما له علم بمن في السماء إلا بإعلام الله تعالى؛ وعلم المغيبات لا يوصل إليه إلا بإعلام الله تعالى، وعلمه بأحوال أهل النار، وابتداء خلق آدم لم يكن عنه علم بذلك؛ فإخباره بذلك هو بإعلام الله والاستدلال بقصة آدم، لأنه أول البشر خلقاً، وبينه وبين الرسول عليه السلام أزمان متقادمة وقرون سالفة. انتهى، وفي آخره بعض اختصار. ثم احتج بصحة نبوته، بأن ما ينبئ به عن الملأ الأعلى واختصامهم أمر لم يكن له به من علم قط. ثم علمه من غير الطريق الذي يسلكه المتعلمون، بل ذلك مستفاد من الوحي، وبالملأ متعلق بعلم، وإذ منصوب به. وقال الزمخشري: بمحذوف، لأن المعنى: ما كان لي من علم بكلام الملأ الأعلى وقت اختصامهم. {وإذ قال} بدل من {إذ يختصمون} على الملأ الأعلى، وهم الملائكة، وأبعد من قال إنهم قريش، واختصام الملائكة في أمر آدم وذريته في جعلهم في الأرض. وقالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها} قال ابن عباس: وقال الحسن: إن الله خالق خلقاً كنا أكرم منه وأعلم. وقيل: في الكفارات وغفر الذنوب، فإن العبد إذا عمل حسنة اختلفت الملائكة في قدر ثوابه في ذلك حتى يقضي الله بما يشاء. وفي الحديث: «قال له ربه في نومه، عليه السلام: فيم يختصمون؟ فقلت: لا أدري، فقال: في الكفارات وفي إسباغ الوضوء في السرات ونقل الخطأ إلى الجماعات» وقال الزمخشري: كانت مقاولة الله سبحانه بواسطة ملك، وكان المقاول في الحقيقة هو الملك المتوسط، فيصح أن التقاول بين الملائكة وآدم وإبليس، وهم الملأ الأعلى؛ والمراد بالاختصام: التقاول. وقيل: الملأ الأعلى: الملائكة، وإذ يختصمون: الضمير فيه للعرب الكافرين، فبعضهم يقول: هي بنات الله، وبعضهم: آلهة تعبد، وغير ذلك من أقوالهم. {إن يوحي إليّ}: أي ما يوحى إليّ، {إلا إنما أنا نذير}: أي للإنذار، حذف اللام ووصل الفعل والمفعول الذي لم يسم فاعله يجوز أن يكون ضميراً يدل عليه، المعنى، أي أن يوحى إليّ هو، أي ما يوحى إلا الإنذار، وأقيم إلى مقامه، ويجوز أن يكون إنما هو المفعول الذي لم يسم فاعله، أي ما يوحى إليّ إلا الإنذار. وقرأ أبو جعفر: إلا إنما، بكسر همزة إنما على الحكاية، أي ما يوحى إليّ إلا هذه الجملة، كأن قيل له: أنت نذير مبين، فحكى هو المعنى، وهذا كما يقول الإنسان: أنا عالم، فيقال له: قلت إنك عالم، فيحكى المعنى. وقال الزمخشري: وقرئ إنما بالكسر على الحكاية، أي إلا هذا القول، وهو أن أقول لكم {إنما أنا نذير مبين}، فلا أدعي شيئاً آخر. انتهى. في تخريجه تعارض، لأنه قال: أي إلا هذا القول، فظاهره الجملة التي هي {إنما أنا نذير مبين}، ثم قال: وهو أن أقول لكم إني نذير، فالمقام مقام الفاعل هو أن أقول لكم، وأن وما بعده في موضع نصب، وعلى قوله: إلا هذا القول، يكون في موضع رفع فيتعارضا. وتقدم أن، إذ قال بدل من: إذ يختصمون، هذا إذا كانت الخصومة في شأن من يستخلف في الأرض، وعلى غيره من الأقوال يكون منصوباً باذكر. ولما كانت قريش، خالفوا الرسول، عليه السلام، بسبب الحسد والكبر. ذكر حال إبليس، حيث خالف أمر الله بسبب الحسد والكبر وما آل إليه من اللعنة والطرد من رحمة الله، ليزدجر عن ذلك من فيه شيء منهما. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف صح أن يقول لهم: {إني خالق بشراً}، وما عرفوا ما البشر ولا عهدوا به قبل؟ قلت: وجهه أن يكون قد قال لهم: إني خالق خلقاً من صفة كيت وكيت، ولكنه حين حكاه اقتصر على الاسم. انتهى. والبشر هو آدم عليه السلام، وذكر هنا أنه خلقه من طين، وفي آل عمران: {خلقه من تراب} وفي الحجر: {من صلصال من حمأ مسنون} وفي الأنبياء: {من عجل} ولا منافاة في تلك المادة البعيدة، وهي التراب، ثم ما يليه وهو الطين، ثم ما يليه وهو الحمأ المسنون، ثم المادة تلي الحمأ وهو الصلصال؛ وأما من عجل فمضى تفسير. {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين، فسجد الملائكة كلهم أجمعون، إلا إبليس}: تقدم الكلام على هذا في الحجر، وهنا {استكبر وكان من الكافرين}، وفي البقرة: {أبى واستكبر وكان من الكافرين} وفي الأعراف: {لم يكن من الساجدين} وفي الحجر: {أبى أن يكون من الساجدين} وفي الإسراء: {قال أأسجد لمن خلقت طيناً} وفي الكهف: {كان من الجن ففسق عن أمر ربه} والإستثناء في جميع هذه الآيات يدل على أنه لم يسجد، فتارة أكد بالنفي المحض، وتارة ذكر إبايته عن السجود، وهي الأنفة من ذلك، وتارة نص على أن ذلك الامتناع كان سببه الاستكبار. والظاهر أن قوله: {وكان من الكافرين} أريد به كفره ذلك الوقت، وإن لم يكن قبله كافراً؛ وعطف على استكبر، فقوى ذلك، لأن الاستكبار عن السجود إنما حصل له وقت الأمر. ويحتمل أن يكون إخباراً منه بسبق كفره في الأزمنة الماضية في علم الله. {قال يا إبليس ما منعك أن تسجد}، وفي الأعراف: {ما منعك أن لا تسجد} فدل أن تسجد هنا، على أن لا في أن لا تسجد زائدة، والمعنى أيضاً يدل على ذلك، لأنه لا يستفهم إلا عن المانع من السجود، وهو استفهام تقرير وتوبيخ. وما في {لما خلقت}، استدل بها من يجيز إطلاق ما على آحاد من يعقل، وأول بأن ما مصدرية، والمصدر يراد به المخلوق، لا حقيقة المصدر. وقرأ الجحدري: لما بفتح اللام وتشديد الميم، خلقت بيدي، على الإفراد؛ والجمهور: على التثنية؛ وقرئ بيديّ، كقراءة بمصرخي؛ وقال تعالى: {مما عملت أيدينا} بالجمع، وكلها عبارة عن القدرة والقوة، وعبر باليد، إذ كان عند البشر معتاداً أن البطش والقوة باليد. وذهب القاضي أبو بكر بن الطيب إلى أن اليد صفة ذات. قال ابن عطية: وهو قول مرغوب عنه. وقرأ الجمهور: {أستكبرت}، بهمزة الاستفهام، وأم متصلة عادلت الهمزة. قال ابن عطية: وذهب كثير من النحويين إلى أن أم لا تكون معادلة للألف مع اختلاف الفعلين، وإنما تكون معادلة إذا دخلتا على فعل واحد، كقولك: أزيد قام أم عمرو؟ وقولك: أقام زيد أم عمرو؟ فإذا اختلف الفعلان كهذه الآية، فليست معادلة. ومعنى الآية: أحدث لك الاستكبار الآن، أم كنت قديماً ممن لا يليق أن تكلف مثل هذا لعلو مكانك؟ وهذا على جهة التوبيخ. انتهى. وهذا الذي ذكره عن كثير من النحويين مذهب غير صحيح. قال سيبويه: وتقول أضربت زيداً أم قتلته فالبدء هنا بالفعل أحسن، لأنك إنما تسأل عن أحدهما، لا تدري أيهما كان، ولا تسأل عن موضع أحدهما، كأنك قلت: أي ذلك كان؟ انتهى. فعادل بأم الألف مع اختلاف الفعلين. {من العالين}: ممن علوت وفقت. فأجاب بأنه من العالين، حيث قال {أنا خير منه}. وقيل: استكبرت الآن، أو لم تزل مذ كنت من المستكبرين؟ ومعنى الهمزة: التقرير. انتهى. وقرأت فرقة، منهم ابن كثير وغيره: استكبرت، بصلة الألف، وهي قراءة أهل مكة، وليست في مشهور ابن كثير، فاحتمل أن تكون همزة الاستفهام حذفت لدلالة أم عليها، كقوله: بسبع رمين الجمر أم بثمان *** واحتمل أن يكون إخباراً خاطبه بذلك على سبيل التقريع، وأم تكون منقطعة، والمعنى: بل أنت من العالين عند نفسك استخفافاً به. {قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين}: تقدم الكلام على ذلك في الأعراف. {قال فاخرج منها} إلى قوله: {إلى يوم الوقت المعلوم}: تقدم الكلام على مثل ذلك في الحجر، إلا أن هنا {لعنتي} وهناك {اللعنة} أعم. ألا ترى إلى قوله: {أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} وأما بالإضافة، فالعموم في اللعنة أعم، واللعنات إنما تحصل من جهة أن عليه لعنة الله كانت عليه لعنة كل لاعن، هذا من جهة المعنى، وأما باللفظ فيقتضي التخصيص. {قال فبعزتك لأغوينهم}: أقسم إبليس هنا بعزة الله، وقال في الأعراف: {فبما أغويتني لأقعدن} وفي الحجر: {رب بما أغويتني لأزينن} وتقدم الكلام عليهما في موضعهما، وأن من المفسرين من قال: إن الباء في: بما أغويتني، وفي: فبما أغويتني ليست باء القسم. فإن كانت باء القسم، فيكون ذلك في موطئين: فهنا: {لأغوينهم}، وفي الأعراف: {لأقعدن}، وفي الحجر: {لأزينن}. وقرأ الجمهور: فالحق والحق، بنصبهما. أما الأول فمقسم به، حذف منه الحرف كقوله: {أمانة الله لأقومن}، والمقسم عليه {لأملأن}. {والحق أقول}: اعتراض بين القسم وجوابه. قال الزمخشري: ومعناه: ولا أقول إلا الحق. انتهى، لأن عنده تقدم المفعول يفيد الحصر. والحق المقسم به إما اسمه تعالى الذي في قوله: {إن الله هو الحقّ المبين} أو الذي هو نقيض الباطل. وقيل: فالحق منصوب على الإغراء، أي فالزموا الحق، ولأملأن: جواب قسم محذوف. وقال الفراء: هو على معنى قولك: حقاً لا شك، ووجود الألف واللام وطرحهما سواء، أي لأملأن جهنم حقاً. انتهى. وهذا المصدر الجائي توكيداً لمضمون الجملة، لا يجوز تقديمه عند جمهور النحاة، وذلك مخصوص بالجملة التي جزآها معرفتان جامدتان جموداً محضاً. وقال صاحب البسيط: وقد يجوز أن يكون الخبر نكرة، قال: والمبتدأ يكون ضميراً نحو: هو زيد معروفاْ، وهو الحق بيننا، وأنا الأمير مفتخراً؛ ويكون ظاهراً كقولك: زيد أبوك عطوفاً، وأخوك زيد معروفاً. انتهى. وقالت العرب: زيد قائم غير ذي شك، فجاءت الحال بعد جملة، والخبر نكرة، وهي حال مؤكدة لمضمون الجملة، وكأن الفراء لم يشترط هذا الذي ذكره أصحابنا من كون المبتدأ والخبر معروفين جامدين، لأنه لا فرق بين تأكيد مضمون الجملة الابتدائية وبين تأكيد الجملة الفعلية. وقيل: التقدير فالحق الحق، أي افعله. وقرأ ابن عباس، ومجاهد، والأعمش: بالرفع فيهما، فالأول مبتدأ خبره محذوف، قيل: تقديره فالحق أنا، وقيل: فالحق مني، وقيل: تقديره فالحق قسمي، وحذف كما حذف في: لعمرك لأقومن، وفي: يمين الله أبرح قاعداً، أي لعمرك قسمي ويمين الله قسمي، وهذه الجملة هي جملة القسم وجوابه: لأملأن. وأما {والحق أقول} فمبتدأ أيضاً، خبره الجملة، وحذف العائد، كقراءة ابن عباس: {وكلاًّ وعد الله الحسنى} وقال ابن عطية: أما الأول فرفع على الابتداء، وخبره في قوله: {لأملأن}، لأن المعنى: أن أملأ. انتهى. وهذا ليس بشيء، لأن لأملأن جواب قسم، ويجب أن يكون جملة، فلا يتقدر بمفرد. وأيضاً ليس مصدراً مقدراً بحرف مصدري، والفعل حتى ينحل إليهما، ولكنه لما صح له إسناد ما قدر إلى المبتدأ، حكم أنه خبر عنه. وقرأ الحسن، وعيسى، وعبد الرحمن بن أبي حماد عن أبي بكر: بجرهم، ويخرج على أن الأول مجرور بواو القسم محذوفة تقديره: فوالحق، والحق معطوف عليه، كما تقول: والله والله لأقومن، وأقوال اعتراض بين القسم وجوابه. وقال الزمخشري: {والحق أقول}: أي ولا أقول إلا الحق على حكاية لفظ المقسم به، ومعناه التوكيد والتسديد، وهذا الوجه جائز في المنصوب والمرفوع، وهو وجه دقيق حسن. انتهى. وملخصه أنه أعمل القول في لفظ المقسم به على سبيل الحكاية نصباً أو رفعاً أو جراً. وقرأ مجاهد، والأعمش: بخلاف عنهما؛ وأبان بن تغلب، وطلحة في رواية، وحمزة، وعاصم عن المفضل، وخلف، والعبسي: برفع فالحق ونصب والحق، وتقدم إعرابهما. والظاهر أن قوله: {أجمعين} تأكيد للمحدث عنه والمعطوف عليه، وهو ضمير إبليس ومن عطف عليه، أي منك ومن تابعيك أجمعين. وأجاز الزمخشري أن يكون أجمعين تأكيداً للضمير الذي في منهم، مقدر لأملأن جهنم من الشياطين وممن تبعهم من جميع الناس، لا تفاوت في ذلك بين ناس وناس بعد وجود الأتباع منهم من أولاد الأنبياء وغيرهم. انتهى. والضمير في عليه عائد على القرآن، قاله ابن عباس. وقيل: عائد على الوحي. وقيل: على الدعاء إلى الله. {وما أنا من المتكلفين}: أي المتصنعين المتحلين بما ليسوا من أهله، فانتحل النبوة والقول على الله. {إن هو}: أي القرآن، {إلا ذكر}: أي من الله، {للعالمين}: الثقلين الإنس والجن. {ولتعلمنّ نبأه}: أي عاقبة خبره لمن آمن به ومن أعرض عنه، {بعد حين}، قال ابن عباس وعكرمة وابن زيد: يعني يوم القيامة. وقال قتادة، والفراء، والزجاج: بعد الموت. وكان الحسن يقول: يا ابن آدم، عند الموت يأتيك الخبر اليقين. وقيل: المعنى ليظهرن لكم حقيقة ما أقول. {بعد حين}: أي في المستأنف، إذا أخذتكم سيوف المسلمين، وذلك يوم بدر، وأشار إلى ذلك السدّي.
{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)} هذه السورة مكية، وعن ابن عباس: إلا {الله الذين نزل الحديث}، و{قل يا عبادي الذين أسرفوا}. وعن مقاتل: إلا {يا عبادي الذين أسرفوا}، وقوله: {يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم أحسنوا في هذه الدنيا حسنة}. وعن بعض السلف: إلا {يا عبادي الذين أسرفوا}، إلى قوله: {تشعرون}، ثلاث آيات. وعن بعضهم: إلا سبع آيات، من قوله: {يا عبادي الذين أسرفوا}. ومناسبتها لآخر ما قلبها أنه ختم السورة المتقدمة بقوله: {إن هو إذ ذكر للعالمين} وبدأ هنا: {تنزيل الكتاب من العزيز الحكيم}. وقال الفراء والزجاج: {تنزيل} مبتدأ، و{من الله} الخبر، أو خبر مبتدأ محذوف، أي هذا تنزيل، ومن الله متعلق بتنزيل؛ وأقول إنه خبر، والمبتدأ هو ليعود على قوله: {إن هو إلا ذكر للعالمين}، كأنه قيل: وهذا الذكر ما هو فقيل: هو تنزيل الكتاب. وقال الزمخشري: أو غير صلة، يعني من الله، كقولك: هذا الكتاب من فلان إلى فلان، وهو على هذا خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا تنزيل الكتاب. هذا من الله، أو حال من تنزيل عمل فيها معنى الإشارة. انتهى. ولا يجوز أن يكون حالاً عمل فيها معنى الإشارة، لأن معاني الأفعال لا تعمل إذا كان ما هو فيه محذوفاً، ولذلك ردوا على أبي العباس قوله في بيت الفرزذق: وإذ ما مثلهم بشر *** أن مثلهم منصوب بالخبر المحذوف وهو مقدر، أي وأن ما في الوجود في حال مماثلتهم بشر. والكتاب يظهر أنه القرآن، وكرر في قوله: {إنا أنزلنا إليك الكتاب} على جهة التفخيم والتعظيم، وكونه في جملة غير السابقة ملحوظاً فيه إسناده إلى ضمير العظمة وتشريف من أنزل إليه بالخطاب وتخصيصه بالحق. وقرأ ابن أبي عبلة وزيد بن علي وعيسى: تنزيل بالنصب، أي اقرأ والزم. وقال ابن عطية: قال المفسرون في تنزيل الكتاب هو القرآن، ويظهر لي أنه اسم عام لجميع ما تنزل من عند الله من الكتب، وكأنه أخبر إخباراً مجرداً أن الكتب الهادية الشارعة إنما تنزيلها من الله، وجعل هذا الإخبار تقدمة وتوطئة لقوله: {إنا أنزلنا إليك الكتاب}، والعزيز في قدرته، الحكيم في ابتداعه. والكتاب الثاني هو القرآن، لا يحتمل غير ذلك. وقال الزمخشري: فإن قلت: ما المراد بالكتاب؟ قلت: الظاهر على الوجه الأول أنه القرآن، وعلى الثاني أنه السورة. انتهى. وبالحق في موضع الحال، أي ملتبساً بالحق، وهو الصدق الثابت فيما أودعناه من إثبات التوحيد والنبوة والمعاد والتكاليف، فهذا كله حق وصدق يجب اعتقاده والعمل به، أو يكون بالحق: بالدليل على أنه من عند الله، وهو عجز الفصحاء عن معارضته. وقال ابن عطية: أي متضمناً الحق فيه وفي أحكامه وفي أخباره، أو بمعنى الاستحقاق وشمول المنفعة للعالم في هدايتهم ودعوتهم إلى الله. انتهى ملخصاً. ولما امتن تعالى على رسوله بإنزال الكتاب عليه بالحق، وكان الحق إخلاص العبادة لله، أمره تعالى بعبادته فقال: {فاعبد الله}، وكأن هذا الأمر ناشئ عن إنزال الكتاب، فالفاء فيه للربط، كما تقول: أحسن إليك زيد فاشكره. {مخلصاً}: أي ممحضاً، {له الدين}: من الشرك والرياء وسائر ما يفسده. وقرأ الجمهور: الدين بالنصب. وقرأ ابن أبي عبلة: بالرفع فاعلاً بمخلصاً، والراجع لذي الحال محذوف على رأي البصريين، أي الدين منك، أو يكون أل عوضاً من الضمير، أي دينك. وقال الزمخشري: وحق من رفعه أن يقرأ مخلصاً بفتح اللام، كقوله تعالى: {وأخلصوا دينهم لله} حتى يطابق قوله: {ألا لله الدين الخالص}، والخالص والمخلص واحد، إلا أن يصف الدين بصفة صاحبه على الإسناد المجازي، كقولهم: شعر شاعر. وأما من جعل مخلصاً حالاً من العابد، وله الدين مبتدأ وخبر، فقد جاء بإعراب رجع به الكلام إلى قولك: لله الدين، أي لله الدين الخالص. انتهى. وقد قدمنا تخريجه على أنه فاعل بمخلصاً، وقدرنا ما يربط الحال بصاحبها، وممن ذهب إلى أن له الدين مستأنف مبتدأ وخبر الفراء. {ألا لله الدين الخالص}: أي من كل شائبة وكدر، فهو الذي يجب أن تخلص له الطاعة، لاطلاعه على الغيوب والأسرار، ولخلوص نعمته على عباده من غير استجرار منفعة منهم. قال الحسن: الدين الخالص: الإسلام؛ وقال قتادة: شهادة أن لا إله إلا الله. {والذين اتخذوا}: مبتدأ، والظاهر أنهم المشركون، واحتمل أن يكون الخبر قال المحذوف المحكى به قوله: {ما نعبدهم}، أي والمشركون المتخذون من دون الله أولياء قالوا: ما نعبد تلك الأولياء {إلا ليقربونا إلى الله زلفى}، واحتمل أن يكون الخبر: {إن الله يحكم بينهم}، وذلك القول المحذوف في موضع الحال، أي اتخذوهم قائلين ما نعبدهم. وأجاز الزمخشري أن يكون الخبر {إن الله يحكم}، وقالوا: المحذوفة بدل من اتخذوا صلة الذين، فلا يكون له موضع من الإعراب، وكأنه من بدل الاشتمال. وفي مصحف عبد الله: قالوا ما نعبدهم، وبه قرأ هو وابن عباس ومجاهد وابن جبير، وأجاز الزمخشري أن يكون {والذين اتخذوا} بمعنى المتخذين، وهم الملائكة وعيسى واللات والعزى ونحوهم، والضمير في اتخذوا عائد على الموصول محذوف تقديره: والذين اتخذهم المشركون أولياء، وأولياء مفعول ثان، وهذا الذي أجازه خلاف الظاهر، وهذه المقالة شائعة في العرب، فقال ذلك ناس منهم في الملائكة وناس في الأصنام والأوثان. قال مجاهد: وقد قال ذلك قوم من اليهود في عزيز، وقوم من النصارى في المسيح. وقرئ: ما نعبدهم بضم النون، اتباعاً لحركة الباء. {إن الله يحكم بينهم}: اقتصر في الرد على مجرد التهديد، والظاهر أن الضمير في بينهم عائد على المتخذين، والمتخذين والحكم بينهم هو بإدخال الملائكة وعيسى عليه السلام الجنة، ويدخلهم النار مع الحجارة والخشب التي نحتوها وعبدوها من دون الله، يعذبهم بها، حيث يجعلهم وإياها حصب جهنم. واختلافهم أن من عبدوه كالملائكة وعيسى كانوا متبرئين منهم لاعنين لهم موحدين لله. وقيل: الضمير في بينهم عائد على المشركين والمؤمنين، إذا كانوا يلومونهم على عبادة الأصنام فيقولون: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى}، والحكم إذ ذاك هو في يوم القيامة بين الفريقين. {إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار}: كاذب في دعواه أن لله شريكاً، كفار لأنعم الله حيث، جعل مكان الشكر الكفر، والمعنى: لا يهدي من ختم عليه بالموافاة على الكفر فهو عام، والمعنى على الخصوص: فكم قد هدى من سبق منه الكذب والكفر. قال ابن عطية: لا يهدي الكاذب الكافر في حال كذبه وكفره. وقال الزمخشري: المراد بمنع الهداية: منع اللطف تسجيلاً عليهم بأن لا لطف لهم، وأنهم في علم الله من الهالكين. انتهى، وهو على طريق الاعتزال. وقرأ أنس بن مالك، والجحدري، والحسن، والأعرج، وابن يعمر: كذاب كفار. وقرأ زيد بن علي: كذوب وكفور. ولما كان من كذبهم دعوى بعضهم أن الملائكة بنات الله، وعبدوها عقبه بقوله: {لو أراد الله أن يتخذ ولداً}، تشريفاً له وتبنياً، إذ يستحيل أن يكون ذلك في حقه تعالى بالتوالد المعروف، {لاصطفى}: أي اختار من مخلوقاته ما يشاء ولداً على سبيل التبني، ولكنه تعالى لم يشأ ذلك لقوله: {وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً} وهو عام في اتخاذ النسل واتخاذ الاصطفاء. ويدل على أن الاتخاذ هو التبني، والاصطفاء قوله: {مما يخلق}: أي من التي أنشأها واخترعها؛ ثم نزه تعالى نفسه تنزيهاً مطلقاً فقال: {سبحانه}، ثم وصف نفسه بالوحدانية والقهر لجميع العالم. وقال الزمخشري: يعني لو أراد اتخاذ الولد لامتنع، ولم يصح لكونه محالاً، ولم يتأت إلا أن يصطفي من خلقه بعضهم، ويختصهم ويقربهم كما يختص الرجل ولده ويقربه، وقد فعل ذلك بالملائكة، فافتتنتم به وغركم اختصاصه إياهم، فزعمتم أنهم أولاده جهلاً منكم به وبحقيقة المخالفة لحقائق الأجسام والأعراض، كأنه قال: لو أراد اتخاذ الولد، لم يزد على ما فعل من اصطفاء ما شاء من خلقه، وهم الملائكة، إلا أنك لجهلكم به، حسبتم اصطفاءهم اتخاذهم أولاداً، ثم تماديتم في جهلكم وسفهكم، فجعلتموهم بنات، وكنتم كذابين كفارين مبالغين في الافتراء على الله وملائكته. انتهى والذي يدل على تركيب لو وجوابها أنه كان يترتب اصطفاء الولد مما يخلق على تقدير اتخاذه، لكنه لم يتخذه، فلا يصطفيه. وأما ما ذكره الزمخشري من قوله يعني: لو أراد إلى أخره، وقوله: بعد، كأنه قال: لو أراد اتخاذ الولد، لم يزد على ما فعل من اصطفاء ماشاء الله من خلقه، وهم الملائكة، فليس مفهوماً من قوله: {لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى مما يخلق ما يشاء}. ولما نزه تعالى نفسه ووصف ذاته بالوحدة والقهر، ذكر ما دل على ذلك من اختراع العالم العلوي والسفلي بالحق، وتكوير الليل والنهار، وتسخير النيرين وجريهما على نظام واحد، واتساق أمرهما على ما أراد إلى أجل مسمى، وهو يوم القيامة، حيث تخرب بنية هذا العالم فيزول جريهما، أو إلى وقت مغيبهما كل يوم وليلة، أو وقت قوايسها كل شهر. والتكوير: تطويل منهما على الآخر، فكأنه الآخر صار عليه جزء منه. قال ابن عباس: يحمل الليل على النهار. وقال الضحاك: يدخل الزيادة في أحدهما بالنقصان من الآخر. وقال أبو عبيدة: يدخل هذا على هذا. وقال الزمخشري: وفيه أوجه: منها أن الليل والنهار خلفة، يذهب هذا ويغشى مكانه هذا؛ وإذا غشي مكانه فكأنما ألبسه ولف عليه كما يلف على اللابس اللباس؛ ومنها أن كل واحد منهما يغيب الآخر إذا طرأ عليه، فشبه في تغييبه إياه بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه من مطامح الأبصار؛ ومنها أن هذا يكر على هذا كروراً متتابعاً، فشبه ذلك بتتابع أكوار العمامة بعضها على أثر بعض. انتهى. {ألا هو العزيز الغفار}: العزيز الذي لا يغالب، الغفار لمن تاب، أو الحليم الذي لا يعجل، سمى الحلم غفراناً مجازاً. ولما ذكر ما دل على واحدانيته وقهره، ذكر الإنسان، وهو الذي كلف بأعباء التكاليف، فذكر أنه أوجدنا من نفس واحدة، وهي آدم عليه السلام، وذلك أن حواء على ما روي خلقت من آدم، فقد صار خلقاً من نفس واحدة لوساطة حواء. وقيل: أخرج ذرية آدم من ظهره كالذر، ثم خلق بعد ذلك حواء، فعلى هذا كان خلقاً من آدم بغير واسطة. وجاءت على هذا القول على وضعها، ثم للمهلة في الزمان، وعلى القول الأول يظهر أن خلق حواء كان بعد خلقنا، وليس كذلك. فثم جاء لترتيب الأخبار كأنه قيل: ثم كان من أمره قبل ذلك أن جعل منها زوجها، فليس الترتيب في زمان الجعل. وقيل: ثم معطوف على الصفة التي هي واحدة، أي من نفس وحدت، أي انفردت. {ثم جعل}، قال الزمخشري: فإن قلت: ما وجه قوله تعالى: {ثم جعل منها زوجها}، وما تعطيه من معنى التراخي؟ قلت: هما آيتان من جملة الآيات التي عددها، دالاً على وحدانيته وقدرته. تشعب هذا الفائت للحصر من نفس آدم وخلق حواء من قصيراه، إلا أن إحداهما جعلها الله عادة مستمرة، والأخرى لم تجربها العادة، ولم تخلق أنثى غير حواء من قصيري رجل، فكانت أدخل في كونها آية، وأجلب لعجب السامع، فعطفها بثم على الآية الأولى، للدلالة على مباينتها فضلاً ومزية، وتراخيها عنها فيما يرجع إلى زيادة كونها آية، فهو من التراخي في الحال والمنزلة، لا من التراخي في الوجود. انتهى. وأما {ثم جعل منها زوجها}، فقد تقدّم الكلام على هذا الجعل في أول سورة النساء، ووصف الأنعام بالإنزال مجازاً ما، لأن قضاياه توصف بالنزول من السماء، حيث كتب في اللوح: كل كائن يكون وأما لعيشها بالنبات والنبات ناشئ عن المطر والمطر نازل من السماء فكأنه تعالى أنزلها، فيكون مثل قول الشاعر: أسنمة الا بال في ربابه *** أي: في سحابه، وقال آخر: صار الثريد في رؤوس العيدان *** وقيل: خلقها في الجنة ثم أنزلها، فعلى هذا يكون إنزال أصولها حقيقة. والأنعام: الإبل والبقر والضأن والمعز، {ثمانية أزواج}، لأن كلاً منها ذكر وأنثى، والزوج ما كان معه آخر من جنسه، فاذا انفرد فهو فرد ووتر. وقال تعالى: {فجعل منها الزوجين الذكر والأثنى} قال ابن زيد: {خلقاً من بعد خلق}: آخر من ظهر آدم وظهور الآباء. وقال عكرمة ومجاهد والسدي: رتبا {خلقاً من بعد خلق} على المضغة والعلقة وغير ذلك. وأخذه الزمخشري فقال: حيواناً سوياً، من بعد عظام مكسوة لحماً، من بعد عظام عارية، من بعد مضغ، من بعد علق، من بعد نطف. انتهى. وقرأ عيسى وطلحة: يخلقكم، بإدغام القاف في الكاف، والظلمات الثلاث: البطن والرحم والمشيمة، وقيل: الصلب والرحم والبطن. {ذلكم}: إشارة إلى المتصف بتلك الأوصاف السابقة من خلق السموات وما بعد ذلك من الأفعال. {فأنى تصرفون}: أي كيف تعدلون عن عبادته إلى عبادة غيره؟ {إن تكفروا}، قال ابن عباس: خطاب للكفار الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم. وعباده: هم المؤمنون، ويؤيده قوله قبله: {فأنى تصرفون}، وهذا للكفار، فجاء {إن تكفرو} خطاباً لهم، {فإن الله غني عنكم}، وعن عبادتكم، إذ لا يرجع إليه تعالى منفعة بكم ولا بعبادتكم إذ هو الغني المطلق. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون مخاطباً لجميع الناس، لأنه تعالى غني عن جميعهم، وهم فقراء إليه. انتهى. ولفظ عباده عام، فقيل: المراد الخصوص، وهم الملائكة ومؤمنو الإنس والجن. والرضا بمعنى الإرادة، فعلى هذا صفة ذات. وقيل: المراد العموم، كما دل عليه اللفظ، والرضا مغاير للإرادة، عبر به عن الشكر والإثابة، أي لا يشكره لهم ديناً ولا يثيبهم به خيراً، فالرضا على هذا صفة فعل بمعنى القبول والأثابة. قال ابن عطية: وتأمل الإرادة، فإن حقيقتها إنما هي فيما لم يقع بعد، والرضا حقيقته إنما هو فيما قد وقع، واعتبر هذا في آيات القرآن تجده، وإن كانت العرب قد تستعمل في أشعارهم على جهة التجوز هذا بدل هذا. وقال الزمخشري: ولقد تمحل بعض الغواة ليثبت لله ما نفاه عن ذاته من الرضا لعباده الكفر، فقال: هذا من العام الذى أريد به الخاص، وما أراد إلا عباده الذين عناهم في قوله: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} يريد المعصومين لقوله: {عيناً يشرب بها عباد الله} تعالى الله عما يقول الظالمون. انتهى. فسمى عبد الله بن عباس ترجمان القرآن وأعلام أهل السنة بعض الغواة، وأطلق عليهم اسم الظالمين، وذلك من سفهه وجرأته، كما قلت في قصيدتي التي ذكرت فيها ما ينقد عليه: ويشتم أعلام الأممة ضلة *** ولا سيما إن أو لجوه المضايقا {وإن تشكروا يرضه لكم}، قال ابن عباس: يضاعف لكم، وكأنه يريد ثواب الشكر؛ وقيل: يقبله منكم. قال صاحب التحرير: قوة الكلام تدل على أن معنى تشكروا: تؤمنوا حتى يصير بإزاء الكفر، والله تعالى قد سمى الأعمال الصالحة والطاعات شكراً في قوله: {اعلموا آل داود شكراً} انتهى. وتقدم الكلام على هذه الآية في سبأ. وقرأ النحويان، وابن كثير: يرضه بوصل ضمة الهاء بواو؛ وابن عامر وحفص: بضمة فقط؛ وأبو بكر: بسكون الهاء، قال أبو حاتم: وهو غلط لا يجوز. انتهى. وليس بغلط، بل ذلك لغة لبني كلاب وبني عقيل. وقوله: {ولا تزر} إلى: {بذات الصدور}، تقدم الكلام عليه.
{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9) قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)} الظاهر أن الإنسان هنا جنس الكافر، وقيل: معين، كعتبة بن ربيعة. ويدخل في الضر جميع المكاره في جسم أو أهل أو مال. {دعا ربه}: استجار ربه وناداه، ولم يؤمل في كشف الضر سواه، {منيباً إليه}: أي راجعاً إليه وحده في إزالة ذلك. {ثم إذا خوله}: أناله وأعطاه بعد كشف ذلك الضر عنه. وحقيقة خوله أن يكون من قولهم: هو خائله، قال: إذا كان متعهداً حسن القيام عليه، أو من خال يخول، إذا إختال وافتخر، وتقول العرب: إن الغني طويل الذيل مياس *** {نسي ما كان يدعو}: أي ترك، والظاهر أن ما بمعنى الذي، أي نسى الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه. وقيل: ما بمعنى من، أي نسي ربه الذي كان يتضرع إليه ويبتهل في كشف ضره. وقيل: ما مصدرية، أي نسي كونه يدعو. وقيل: تم الكلام عند قوله: {نسي}، أي نسي ما كان فيه من الضر. وما نافية، نفى أن يكون دعاء هذا الكافر خالصاً لله مقصوراً من قبل الضرر، وعلى الأقوال السابقة. {من قبل}: أي من قبل تخويل النعمة، وهو زمان الضرر. {وجعل لله أنداداً}: أي أمثالاً يضاد بعضها بعضاً ويعارض. قال قتادة: أي من الرجال يطيعونهم في المعصية. وقال غيره: أوثاناً، وهذا من سخف عقولهم. حين مسى الضر دعوا الله ولم يلتجئوا في كشفه إلا إليه؛ وحين كشف ذلك وخول النعمة أشركوا به، فاللام لام العلة، وقيل: لام العاقبة. وقرأ الجمهور: {ليضل}، بضم الياء: أي ما اكتفى بضلال نفسه حتى جعل غيره يضل. وقرأ ابن كثير، وأبو عمر، وعيسى: بفتحها، ثم أتى بصيغة الأمر فقال: {تمتع بكفرك قليلاً}: أي تلذذوا صنع ما شئت قليلاً، أي عمراً قليلاً، والخطاب للكافر جاعل الأنداد لله. {إنك من أصحاب النار}: أي من سكانها المخلدين فيها. وقال الزمخشري: وقوله {تمتع بكفرك}، أي من باب الخذلان والتخلية، كأنه قيل له: إذ قد أبيت قبل ما أمرت به من الإيمان والطاعة، فمن حقك أن لا تؤمر به بعد ذلك. ويؤمر بتركه مبالغة خذلانه وتخليته وشأنه، لأنه لا مبالغة في الخذلان أشد من أن يبعث على عكس ما أمروا به، ونظيره في المعنى: {متاع قليل ثم مأواهم جهنم} انتهى. ولما شرح تعالى شيئاً من أحوال الظالمين الضالين المشركين، أردفه بشرح أحوال المهتدين الموحدين فقال: {أمّن هو قانت}. وقرأ ابن كثير، ونافع، وحمزة، والأعمش، وعيسى، وشيبة، والحسن في رواية: أمن، بتخفيف الميم. والظاهر أن الهمزة لاستفهام التقرير، ومقابله محذوف لفهم المعنى، والتقدير: أهذا القانت خير أم الكافر المخاطب بقوله {قل تمتع بكفرك}؟ ويدل عليه قوله: {قل هي يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}. ومن حذف المقابل قول الشاعر: دعاني إليها القلب إني لأمرها *** سميع فما أدري أرشد طلابها تقديره: أم غيّ. وقال الفراء: الهمزة للنداء، كأنه قيل: يا من هو قانت، ويكون قوله قل خطابا له، وهذا القول أجنبي مما قبله وما بعده. وضعف هذا القول أبو علي الفارسي، ولا التفات لتضعيف الأخفش وأبي حاتم هذه القراءة. وقرأ باقي السبعة، والحسن، وقتادة، والأعرج، وأبو جعفر: أمّن، بتشديد الميم، وهي أم أدغمت ميمها في ميم من، فاحتملت أم أن تكون متصلة ومعادلها محذوف قبلها تقديره: أهذا الكافر خير أم من هو قانت؟ قال معناه الأخفش، ويحتاج مثل هذا التقدير إلى سماع من العرب، وهو أن يحذف المعادل الأول. واحتملت أم أن تكون منقطعة تتقدر ببل، والهمزة والتقدير: بل أم من هو قانت صفته كذا، كمن ليس كذلك. وقال النحاس: أم بمعنى بل، ومن بمعنى الذي، والتقدير: بل الذي هو قانت أفضل ممن ذكر قبله. انتهى. ولا فضل لمن قبله حتى يجعل هذا أفضل، بل يقدر الخبر من أصحاب الجنة، يدل عليه مقابله: {إنك من أصحاب النار}. والقانت: المطيع، قاله ابن عباس، وتقدم الكلام في القنوت في البقرة. وقرأ الجمهور: {ساجداً وقائماً}، بالنصب على الحال؛ والضحاك: برفعهما إما على النعت لقانت، وإما على أنه خبر بعد خبر، والواو للجمع بين الصفتين. {يحذر الآخرة}: أي عذاب الآخرة، {ويرجو رحمة ربه}: أي حصولها، وقيل: نعيم الجنة، وهذا المتصف بالقنوت إلى سائر الأوصاف، قال مقاتل: عمار، وصهيب، وابن مسعود، وأبو ذر. وقال ابن عمر: عثمان. وقال ابن عباس في رواية الضحاك: أبو بكر وعمر. وقال يحيى بن سلام: رسول الله صلى الله عليه وسلم. والظاهر أنه من اتصف بهذه الأوصاف من غير تعيين. وفي الآية دليل على فضل قيام الليل، وأنه أرجح من قيام النهار. ولما ذكر العمل ذكر العلم فقال: {قل هي يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}، فدل أن كمال الإنسان محصور في هذين المقصودين، فكما لا يستوي هذان، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي. والمراد بالعلم هنا: ما أدى إلى معرفة الله ونجاة العبد من سخطه. وقرأ: يذكر، بإدغام تاء يتذكر في الذال. {قل يا عبادي الذين والذين آمنوا اتقوا ربكم}، وروي أنها نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين عزموا عن الهجرة إلى أرض الحبشة، وعدهم تعالى فقال: {للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة}. والظاهر تعلق في هذه بأحسنوا، وأن المحسنين في الدنيا لهم في الآخرة حسنة، أي حسنة عظيمة، وهي الجنة، قاله مقاتل، والصفة محذوفة يدل عليها المعنى، لأن من أحسن في الدنيا لا يوعد أن يكون له في الآخرة مطلق حسنة. وقال السدي: في هذه من تمام حسنة، أي ولو تأخر لكان صفة، أي الذين يحسنون لهم حسنة كائنة في الدنيا. فلما تقدم انتصب على الحال، والحسنة التي لهم في الدنيا هي العافية والظهور وولاية الله تعالى. ثم حض على الهجرة فقال: {وأرض الله واسعة}، كقوله: {ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها} أي لا عذر للمفرطين البتة، حتى لو اعتلوا بأوطانهم، وأنهم لا يتمكنون فيها من أعمال الطاعات، قيل لهم: إن بلاد الله كثيرة واسعة، فتحولوا إلى الأماكن التي تمكنكم فيها الطاعات. وقال عطاء: وأرض الله: المدينة للهجرة، قيل: فعلى هذا يكون أحسنوا: هاجروا، وحسنة: راحة من الأعداء. وقال قوم: أرض الله هنا: الجنة. قال ابن عطية: وهذا القول تحكم، لا دليل عليه. انتهى. وقال أبو مسلم: لا يمتنع ذلك، لأنه تعالى أمر المؤمنين بالتقوى؛ ثم بين أنه من اتقى له في الآخرة الحسنة، وهي الخلود في الجنة؛ ثم بين أن أرض الله واسعة لقوله: {وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء} وقوله: {وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين} ولما كانت رتبة الإحسان منتهى الرتب، كما جاء: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه. وكان الصبر على ذلك من أشق الأشياء، وخصوصاً من فارق وطنه وعشيرته وصبر على بلاء الغربة. ذكر أن الصابرين يوفون أجورهم بغير حساب، أي لا يحاسبون في الآخرة، كما يحاسب غيرهم؛ أو يوفون ما لا يحصره حساب من الكثرة. {قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين}: أمره تعالى أن يصدع الكفار بما أمر به من عبادة الله، يخلصها من الشوائب، {وأمرت}: أي أمرت بما أمرت، لأكون أول من أسلم، أي انقاد لله تعالى، ويعني من أهل عصره أو من قومه، لأنه أول من حالف عباد الأصنام، أو أول من دعوتهم إلى الإسلام إسلاماً، أو أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره، لأكون مقتدى بي قولاً وفعلاً، لا كالملوك الذين يأمرون بما لا يفعلون، أو أن أفعل ما أستحق به الأولية من أعمال السابقين دلالة على السبب بالمسبب. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف عطف أمرت على أمرت وهما واحد؟ قلت: ليسا بواحد لاختلاف جهتيهما، وذلك أن الأمر بالإخلاص وتكليفه شيء، والأمر به لتحرز به قصب السبق في الدين شيء. وإذا اختلف وجها الشيء وصفتاه ينزل بذلك منزلة شيئين مختلفين، ولك أن تجعل اللام مزيدة مثلها في أردت، لأن أفعل لا تزاد إلا مع أن خاصة دون الاسم الصريح، كأنها زيدت عوضاً من ترك الأصل إلى ما يقوم مقامه، كما عوض السين في اسطاع عوضاً من ترك الأصل الذي هو أطوع. والدليل على هذا الوجه مجيئه بغير لام في قوله: {وأمرت أن أكون أول من أسلم} انتهى. ويحتمل في أن أكون في ثلاثة المواضع أصله لأن أكون، فيكون قد حذفت اللام، والمأمور به محذوف، وهو المصرح به هنا {إني أمرت أن أعبد الله}. {قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم}: تقدّم الكلام على هذه الجملة مقول القول في سورة يونس. لما أمره أولاً أن يخبر بأنه أمر بعبادة الله، أمر ثانياً أن يخبر بأنه يعبد الله وحده. وتقديم الجلالة دال على الاهتمام بمن يعبد، وعند الزمخشري يدل على الاختصاص، قال: ولدلالته على ذلك، قدم المعبود على فعل العبادة، وأخره في الأول. فالكلام أولاً واقع في الفعل في نفسه وإيجاده، وثانياً فيمن يفعل الفعل لأجله، ولذلك رتب عليه قوله: {فاعبدوا ما شئتم من دونه}. والمراد بهذا الأمر الوارد على وجه التخيير المبالغة في الخذلان والتخلية. انتهى. وقال غيره: {فاعبدوا ما شئتم}: صيغة أمر على جهة التهديد لقوله: {قل تمتع بكفرك} {قل إن الخاسرين}: أي حقيقة الخسران، {الذين خسروا}: أي هم الذين خسروا أنفسهم، حيث صاروا من أهل النار، {وأهليهم} الذين كانوا معهم في الدنيا، حيث كانوا معهم في النار، فلم ينتفعوا منهم بشيء، وإن كان أهلوهم قد آمنوا، فخسرانهم إياهم كونهم لا يجتمعون بهم ولا يرجعون إليهم. وقال قتادة: كأن الله قد أعد لهم أهلاً في الجنة فخسروهم، وقال معناه ميمون بن مهران. وقال الحسن: هي الحور العين، ثم ذكر ذلك الخسران وبالغ فيه في التنبيه عليه أولاً، والإشارة إليه، وتأكيده بالفعل، وتعريفه بأل، ووصفه بأنه المبين: أي الواضح لمن تأمله أدنى تأمل. ولما ذكر خسرانهم أنفسهم وأهليهم، ذكر حالهم في جهنم، وأنه من فوقهم ظلل ومن تحتهم ظلل، فيظهر أن النار تغشاهم من فوقهم ومن تحتهم، وسمى ما تحتهم ظللاً لمقابلة ما فوقهم، كما قال: {يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت ارجلهم}، وقال لهم: {من جهنم مهاد ومن وفوقهم ومن غواش} وقيل: هي ظلل للذين هم تحتهم، إذ النار طباق. وقيل: إنما تحتهم يلتهب ويتصاعد منه شيء حتى يكون ظلة، فسمي ظلة باعتبار ما آل إليه أخيراً. {ذلك}: أي ذلك العذاب، {يخوف الله به عباده}: ليعلموا ما يخلصكم منه، ثم ناداهم وأمرهم فقال: {يا عباد فاتقون}: أي اتقوا عذابي.
{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)} قال ابن زيد: نزلت {والذين اجتنبوا الطاغوت} في زيد بن عمرو بن نفيل وسلمان وأبي ذر. وقال ابن إسحاق: الإشارة بها إلى عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، والزبير، وذلك أنه لما أسلم أبو بكر، سمعوا ذلك فجاؤوه وقالوا: أسلمت؟ قال: نعم، وذكرهم بالله، فآمنوا بأجمعهم، فنزلت فيهم، وهي محكمة في الناس إلى يوم القيامة. والطاغوت: تقدم الكلام عليها في البقرة. وقرأ الحسن: الطواغيت جمعاً. {أن يعبدوها}: أي عبادتها، وهو بدل اشتمال. {له البشرى}: أي من الله تعالى بالثواب. {فبشر عبادِ}: هم المجتنبون الطاغوت إلى الله. وضع الظاهر موضع المضمر ليدل على أنهم هم، وليترتب على الظاهر الوصف، وهو: {الذين يستمعون القول}، وهو عام في جميع الأقوال، {فيتبعون أحسنه}: ثناء عليهم بنفوذ بصائرهم وتمييزهم الأحسن، فإذا سمعوا قولاً تبصروه. قيل: وأحسن القول: القرآن وما يرجع إليه. وقيل: القول: القرآن، وأحسنه: ما فيه من صفح وعفو واحتمال ونحو ذلك. وقال قتادة: أحسن القول طاعة الله. وعن ابن عباس: هو الرجل يجلس مع القوم، فيسمع الحديث فيه محاسن مساو، فيحدث بأحسن ما سمع، ويكف عن ما سواه. و{الذين}: وصف لعباد. وقيل: الوقف على عباد، والذين مبتدأ خبره أولئك وما بعده. {أفمن حق عليه كلمة العذاب}: قيل نزلت في أبي جهل، أي نفذ عليه الوعيد بالعذاب. والظاهر أنها جملة مستقلة، ومن موصولة مبتدأ، والخبر محذوف، فقيل تقديره: يتأسف عليه، وقيل: يتخلص منه. وقدره الزمخشري: فأنت تخلصه، قال: حذف لدلالة أفأنت تنفذ عليه؟ وقدر الزمخشري بين الهمزة والفاء جملة حتى تقر الهمزة في مكانها والفاء في مكانها، فقال: التقدير: أأنت مالك أمرهم؟ فمن حق عليه كلمة العذاب، وهو قول انفرد به فيما علمناه. والذي تقوله النحاة أن الفاء للعطف وموضعها التقديم على الهمزة، لكن الهمزة، لما كان لها صدر الكلام، قدمت، فالأصل عندهم: فأمن حق عليه، وعلى القول أنها جملة مستقلة يكون قوله: {أفأنت تنقذ من في النار}، استفهام توقيف، وقدم فيه الضمير إشعاراً بأنك لست تقدر أن تنقذه من النار، بل لا يقدر على ذلك أحد إلا الله. وذهبت فرقة، منهم الحوفي والزمخشري، إلى أن من شرطية، وجواب الشرط أفأنت، فالفاء فاء الجواب دخلت على جملة الجزاء، وأعيدت الهمزة لتوكيد معنى الإنكار والاستبعاد، ووضع من في النار، وهو ظاهر، موضع المضمر، إذ كان الأصل تنقذه، وإنما أظهر تشهيراً لحالهم وإظهاراً لخسة منازلهم. قال الحوفي: وجيء بألف الاستفهام لما طال الكلام توكيداً، ولولا طوله، لم يجز الإتيان بها، لأنه لا يصلح في العربية أن يأتي بألف الاستفهام في الاسم، وألف أخرى في الجزاء. ومعنى الكلام: أفأنت تنقذه؟ انتهى. وعلى هذا القول، يكون قد اجتمع استفهام وشرط على قول الجماعة أن الهمزة قدمت من تأخر، فيجيء الخلاف بين سيبويه ويونس: هل الجملة الأخيرة هي للمستفهم عنها أو هي جواب الشرط؟ وعلى تقدير الزمخشري: لم تدخل الهمزة على اسم الشرط، فلم يجتمع استفهام وشرط، لأن الاستفهام عنده دخل على الجملة المحذوفة عنده، وهو: أأنت مالك أمرهم؟ وفمن معطوف على تلك الجملة المحذوفة، عطفت جملة الشرط على جملة الاستفهام، ونزل استحقاقهم العذاب، وهم في الدنيا بمنزلة دخولهم النار، ونزل اجتهاد الرسول عليه السلام في دعائهم إلى الإيمان منزلة إنقاذهم من النار. ولما ذكر حال الكفار في النار، وأن الخاسرين لهم ظلل، ذكر حال المؤمنين، وناسب الاستدراك هنا، إذ هو واقع بين الكافرين والمؤمنين، فقال: {لكن الذين اتقوا}. ففي ذلك حض على التقوى، لهم علالي مرتفعة فوقها علالي مبنية، أي بناء المنازل التي سويت على الأرض. والضمير في {من تحتها} عائد على الجمعين، أي من تحت الغرف السفلى والغرف العليا، لا تفاوت بين أعلاها وأسفلها وانتصب {وعد الله} على المصدر المؤكد لمضمون الجملة قبله، إذ تضمنت معنى الوعد. {ألم تر}: خطاب وتوقيف للسامع على ما يعتبر به من أفعال الله الدالة على فناء الدنيا واضمحلالها. {فسلكه ينابيع}: أي أدخله مسالك وعيوناً. والظاهر أن ماء العيون هو من ماء المطر، تحبسه الأرض ويخرج شيئاً فشيئاً. {ثم يخرج به زرعاً}، ذكر منته تعالى علينا بما تقوم به معيشتنا. {مختلفاً ألوانه}: من أحمر وأبيض وأصفر، وشمل لفظ الزرع جميع ما يرزع من مقتات وغيره، أو مختلفاً أصنافه من بر وشعير وسمسم وغير ذلك. {ثم يهيج}: يقارب الثمار، {فتراه مصفراً}: أي زالت خضرته ونضارته. وقرأ أبو بشر: ثم يجعله، بالنصب في اللام. قال صاحب الكامل وهو ضعيف. انتهى. {إن في ذلك}: أي فيما ذكر من إنزال المطر وإخراج الزرع به وتنقلاته إلى حالة، الحطامية، {لذكرى}: أي لتذكرة وتنبيهاً على حكمة فاعل ذلك وقدرته. {أفمن شرح الله صدره للإسلام}: نزلت في حمزة، وعلى ومن مبتدأ، وخبره محذوف يدل عليه {فويل للقاسية قلوبهم} تقديره: كالقاسي المعرض عن الإسلام، وأبو لهب وابنه كانا من القاسية قلوبهم، وشرح الصدر استعارة عن قبوله للإيمان والخير والنور والهداية. وفي الحديث: «كيف انشراح الصدور؟ قال: إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح، قلنا: وما علامة ذلك؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل الموت» {فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله}: أي من أجل ذكره، أي إذا ذكر الله عندهم قست قلوبهم. وقال مالك بن دينار: ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة قلب. {أولئك}: أي القاسية قلوبهم، {في ضلال مبين}: أي في حيرة واضحة، لا تخفى على من تأملها.
|